الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ومنها أنه جعل زيارة الميت كزيارته حيا واستدل بحديث { الذي زار أخا له في الحياة } على أنه يستحب زيارة الميت وهذه التسوية والقياس ما عرفت عن أحد من علماء المسلمين ; فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين سافروا إلى الرسول فساعدوه وسمعوا كلامه وخاطبوه وسألوه فأجابهم وعلمهم وأدبهم وحملهم رسائل إلى قومهم وأمرهم بالتبليغ عنه : لا يكون مثلهم أحد بالأعمال الفاضلة : كالجهاد والحج . فكيف يكون بمجرد رؤية ظاهر حجرته مثلهم أو تقاس هذه الزيارة بهذه الزيارة فقد ثبت بالسنة واتفاق الأمة أن كل ما يفعل من الأعمال الصالحة في المسجد عند حجرته من صلاة عليه وسلام وثناء وإكرام وذكر محاسن وفضائل : ممكن فعله في سائر الأماكن ويكون لصاحبه من الأجر ما يستحقه كما قال : { لا تتخذوا بيتي عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم } . ولو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة ; فلما منعوا من الوصول إلى القبر [ ص: 237 ] وأمروا بالعبادة في المسجد : علم أن فضيلة العمل فيه لكونه في مسجده كما أن صلاة في مسجده بألف صلاة فيما سواه ولم يأمر قط بأن يقصد بعمل صالح أن يفعل عند قبره صلى الله عليه وسلم .

                ومنها افتراؤه على المجيب في مواضع متعددة افتراء ظاهرا وسبب افترائه عليه أنه ذكر قول علماء المسلمين ورجح ما قاله مالك وغيره من السلف لكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة توافقهم وهذا يستلزم معاداة الله ورسوله ; إذ كل من عادى سنته وشريعته ودينه فقد عاداه ومن عادى شخصا لأجل ذلك فإنما عادى الرسول صلى الله عليه وسلم في الحقيقة وإن لم يقصد ذلك . فكيف يجوز الكذب والافتراء مرة بعد مرة وهو كذب ظاهر . ولو كان المجيب مخطئا لما جاز ذلك ; فإن الكذب والافتراء حرام مطلقا . والله أوجب الصدق والعدل لكل أحد على كل أحد في كل حال .

                فكيف إذا كان ما ذكره المجيب من الأقوال هي أقوال المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم والمعترض القادح فيهم وفيما قالوه الشاتم المكفر لمن آمن بالرسول وأطاعه واتبعه على نفس ما هو متابعة للرسول وإيمان به : قوله هذا المتضمن عداوة الرسول وعداوة ما جاء به وعداوة من اتبعه وإن لم يكن عالما بما تضمنه قوله . فقوله مع عدم العلم من جنس أقوال المحادين لله ولرسوله الموالين لأهل [ ص: 238 ] الإفك والشرك المضاهين للنصارى وأمثالهم مع أنهم لا يعلمون أن قولهم يتضمن ذلك ; لقلة العلم وسوء الفهم والبعد عن أهلية الاجتهاد والاستدلال بالأدلة الشرعية ومعرفة ما قاله أئمة الدين .

                بل هم في مثل هذه المسألة العظيمة يتكلمون بأنواع من الكلام صاحبها إلى الاستتابة والتعزير والتعليم والتفهيم أحوج منه إلى الرد عليه والمناظرة له كما يوجد في جهال أهل البدع من الرافضة والخوارج وغيرهم من يسارع إلى تكفير من اتبع الرسول من السلف ; لقلة علمه وسوء فهمه لما جاء به الرسول . فهم مبتدعون بدعة بجهلهم ويكفرون من خالفهم .

                وأهل السنة والعلم والإيمان يعرفون الحق ويتبعون سنة الرسول ويرحمون الخلق ويعدلون فيهم ويعذرون من اجتهد في معرفة الحق فعجز عن معرفته ; إنما يذمون من ذمه الله ورسوله وهو المفرط في طلب الحق لتركه الواجب والمعتدي المتبع لهواه بلا علم لفعله المحرم . فيذمون من ترك الواجب أو فعل المحرم ; ولا يعاقبونه إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } لا سيما في مسائل تنازع فيها العلماء وخفي العلم فيها على أكثر الناس ومن كان لا يتكلم بطريقة أهل [ ص: 239 ] العلم بل جازف في القول بلا علم .

                فصاحب هذا الكلام لا يصلح للمناظرة ; إلا كما يناظر جهال العوام المبتدعين المضاهين للمشركين والنصارى فإنهم يجعلون من قال الحق في المخلوق سابا له شاتما وهم يسبون الله ويشتمونه ويؤذونه ولا يخافون من سب الخالق وشتمه والشرك به ما يخافونه من قول الحق في حق المخلوق كما قال الخليل لهم : { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وكما قال تعالى عن المشركين : { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون } فلا يغضبون من ذكر الرحمن بالباطل كما يغضبون من ذكر آلهتهم بالحق . وقال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا } { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون

                } وقد ذكر أهل التفسير : { أن النصارى - نصارى نجران - [ ص: 240 ] لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا محمد لم تذكر صاحبنا ؟ قال : ومن صاحبكم ؟ قالوا : عيسى قال : وأي شيء أقول له ؟ هو عبد الله . قالوا : بل هو الله فقال : إنه ليس بعار عليه أن يكون عبدا لله . فقالوا : بلى فأنزل الله هذه الآية } وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله ; يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم } وفي الصحيحين أيضا أنه قال : { يقول الله : شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك . فأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد . ولم يكن لي كفوا أحد . وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته } وكان معاذ بن جبل يقول عن النصارى : لا ترحموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر .

                فهؤلاء ينتقصون الخالق ويأنفون أن يذكر المخلوق بما يستحقه ويجعلون ذلك تنقيصا له وإنما هو إعطاؤه حقه وخفض له عن درجة الإلهية التي لا يستحقها إلا الله وهذه حال من أشبههم من بعض الوجوه .

                ومنها ظنه أن كل ما كان قربة جاز التوسل إليه بكل وسيلة [ ص: 241 ] وهذا من أظهر الخطأ .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية