الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .

يجوز أن يكون هذا الدعاء محكيا من قول المؤمنين الذين قالوا : سمعنا وأطعنا بأن اتبعوا القبول والرضا ، فتوجهوا إلى طلب الجزاء ومناجاة الله تعالى ، واختيار حكاية هذا عنهم في آخر السورة تكملة للإيذان بانتهائها ، ويجوز أن يكون تلقينا من جانب الله تعالى إياهم بأن يقولوا هذا الدعاء ، مثل ما لقنوا التحميد في سورة الفاتحة ، فيكون [ ص: 140 ] التقدير : قولوا : ربنا لا تؤاخذنا إلى آخر السورة ، إن الله بعد أن قرر لهم أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، لقنهم مناجاة بدعوات هي من آثار انتفاء التكليف بما ليس في الوسع ، والمراد من الدعاء به طلب الدوام على ذلك لئلا ينسخ ذلك من جراء غضب الله كما غضب على الذين قال فيهم : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم .

والمؤاخذة مشتقة من الأخذ بمعنى العقوبة ، كقوله : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة والمفاعلة فيه للمبالغة أي : لا تأخذنا بالنسيان والخطأ .

والمراد ما يترتب على النسيان والخطأ من فعل أو ترك لا يرضيان الله تعالى .

فهذه دعوة من المؤمنين دعوها قبل أن يعلموا أن الله رفع عنهم ذلك بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وفي رواية " وضع " ، رواه ابن ماجه وتكلم العلماء في صحته ، وقد حسنه النووي ، وأنكره أحمد ، ومعناه صحيح في غير ما يرجع إلى خطاب الوضع ، فالمعنى رفع الله عنهم المؤاخذة فبقيت المؤاخذة بالإتلاف والغرامات ، ولذلك جاء في هذه الدعوة لا تؤاخذنا أي : لا تؤاخذنا بالعقاب على فعل : نسيان أو خطأ ، فلا يرد إشكال الدعاء بما علم حصوله ، حتى نحتاج إلى تأويل الآية بأن المراد بالنسيان والخطأ سببهما وهو التفريط والإغفال كما في الكشاف .

وقوله : ربنا ولا تحمل علينا إصرا إلخ ، فصل بين الجملتين المتعاطفتين بإعادة النداء ، مع أنه مستغنى عنه لأن مخاطبة المنادى مغنية عن إعادة النداء لكن قصد من إعادته إظهار التذلل ، والحمل مجاز في التكليف بأمر شديد يثقل على النفس ، وهو مناسب لاستعارة الإصر .

وأصل معنى الإصر ما يؤصر به أي يربط ، وتعقد به الأشياء ، ويقال له : الإصار - بكسر الهمزة - ثم استعمل مجازا في العهد والميثاق المؤكد فيما يصعب الوفاء به ، ومنه قوله في آل عمران : ( قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) وأطلق أيضا على ما يثقل عمله ، والامتثال فيه ، وبذلك فسره الزجاج والزمخشري هنا وفي قوله ، في [ ص: 141 ] سورة الأعراف : ويضع عنهم إصرهم وهو المقصود هنا ، ومن ثم حسنت استعارة الحمل للتكليف ; لأن الحمل يناسب الثقل فيكون قوله ولا تحمل ترشيحا مستعارا لملائم المشبه به وعن ابن عباس ولا تحمل علينا إصرا عهدا لا نفي به ، ونعذب بتركه ونقضه .

وقوله : كما حملته على الذين من قبلنا صفة لـ " إصرا " أي : عهدا من الدين كالعهد الذي كلف به من قبلنا في المشقة ، مثل ما كلف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة ، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك ، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات ، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم ، قال تعالى في صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويضع عنهم إصرهم .

وقوله : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي : ما لا نستطيع حمله من العقوبات ، والتضعيف فيه للتعدية ، وقيل : هذا دعاء بمعافاتهم من التكاليف الشديدة ، والذي قبله دعاء بمعافاتهم من العقوبات التي عوقبت بها الأمم ، والطاقة في الأصل الإطاقة خففت بحذف الهمزة كما قالوا : جابة وإجابة ، وطاعة وإطاعة .

والقول في هذين الدعاءين كالقول في قوله ربنا لا تؤاخذنا .

وقوله : واعف عنا واغفر لنا لم يؤت مع هذه الدعوات بقوله " ربنا " ، إما لأنه تكرر ثلاث مرات ، والعرب تكره تكرير اللفظ أكثر من ثلاث مرات إلا في مقام التهويل ، وإما لأن تلك الدعوات المقترنة بقوله " ربنا " فروع لهذه الدعوات الثلاث ، فإن استجيبت تلك حصلت إجابة هذه بالأولى ، فإن العفو أصل لعدم المؤاخذة ، والمغفرة أصل لرفع المشقة ، والرحمة أصل لعدم العقوبة الدنيوية والأخروية ، فلما كان تعميما بعد تخصيص كان كأنه دعاء واحد .

وقوله : أنت مولانا فصله لأنه كالعلة للدعوات الماضية ، أي : دعوناك ورجونا منك ذلك لأنك مولانا ، ومن شأن المولى الرفق بالمملوك ، وليكون هذا أيضا كالمقدمة للدعوة الآتية .

[ ص: 142 ] وقوله : فانصرنا على القوم الكافرين جيء فيه بالفاء للتفريع عن كونه مولى ، لأن شأن المولى أن ينصر مولاه ، ومن هنا يظهر موقع التعجيب والتحسير في قول مرة بن عداء الفقعسي :


رأيت موالي الألى يخذلونني على حدثان الدهر إذ يتقلب

وفي التفريع بالفاء إيذان بتأكيد طلب إجابة الدعاء بالنصر ، لأنهم جعلوه مرتبا على وصف محقق ، وهو ولاية الله تعالى المؤمنين ، قال تعالى : الله ولي الذين آمنوا وفي حديث يوم أحد لما قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم . قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - أجيبوه : الله مولانا ولا مولى لكم ووجه الاهتمام بهذه الدعوة أنها دعوة جامعة لخيري الدنيا والآخرة ، لأنهم إذا نصروا على العدو ، فقد طاب عيشهم وظهر دينهم ، وسلموا من الفتنة ، ودخل الناس فيه أفواجا .

في الصحيح ، عن أبي مسعود الأنصاري البدري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه وهما من قوله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه إلى آخر السورة ، قيل : معناه كفتاه عن قيام الليل ، فيكون معنى من قرأ من صلى بهما ، وقيل : معناه كفتاه بركة وتعوذا من الشياطين والمضار ، ولعل كلا الاحتمالين مراد .

التالي السابق


الخدمات العلمية