الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ منشأ أيمان البيعة ]

ومن هذه الالتزامات التي لم يلزم بها الله ولا رسوله لمن حلف بها الأيمان التي رتبها الفاجر الظالم الحجاج بن يوسف ، وهي أيمان البيعة

{ وكانت البيعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصافحة ، وبيعة النساء بالكلام ، وما مست يده الكريمة صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا يملكها ، فيقول لمن يبايعه : بايعتك ، أو أبايعك ، على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره } ، كما في الصحيحين عن ابن عمر { كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، فيقول : فيما استطعت } وفي صحيح مسلم عن جابر { كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، بايعناه على أن لا نفر ، ولم نبايعه على الموت } .

[ كيف كانت بيعة النبي للناس ؟ ]

وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال { بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا ، لا تأخذنا في الله لومة لائم } .

وفي الصحيحين أيضا عن { جنادة بن أبي أمية قال : دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض ، فقلنا : حدثنا أصلحك الله بحديث ننتفع به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه ، وكان فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان } . [ ص: 63 ] وفي الصحيحين عن عائشة قالت : { كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقول الله تعالى : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن } إلى آخر الآية .

قالت عائشة : فمن أقرت بهذا من المؤمنات فقد أقرت بالمحنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقن فقد بايعتكن ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط ، غير أنه يبايعهن بالكلام
} .

{ قالت عائشة : والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله ، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاما } .

فهذه هي البيعة النبوية التي قال الله عز وجل فيها : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } وقال فيها : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } .

[ أيمان البيعة التي أحدثها الحجاج الثقفي ]

فأحدث الحجاج في الإسلام بيعة غير هذه تتضمن اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال والحج ; فاختلف علماء الإسلام في ذلك على عدة أقوال ، ونحن نذكر تحرير هذه المسألة وكشفها ; فإن كان مراد الحالف بقوله " أيمان البيعة تلزمني " البيعة النبوية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عليها أصحابه لم يلزمه الطلاق والإعتاق ولا شيء مما رتبه الحجاج ، وإن لم ينو تلك البيعة ونوى البيعة الحجاجية فلا يخلو : إما أن يذكر في لفظه طلاقا أو عتاقا أو حجا أو صدقة أو يمينا بالله أو لا يذكر شيئا من ذلك ; فإن لم يذكر في لفظه شيئا فلا يخلو : إما أن يكون عارفا بمضمونها أو لا ; وعلى التقديرين فإما أن ينوي مضمونها كله أو بعض ما فيها أو لا ينوي شيئا من ذلك ، فهذه تقاسيم هذه المسألة .

[ رأي الشافعي وأصحابه ]

فقال الشافعي وأصحابه : إن لم يذكر في لفظه طلاقها أو عتاقها أو حجها أو صدقتها لم يلزمه شيء نواه أو لم ينوه ، إلا أن ينوي طلاقها أو عتاقها فاختلف أصحابه ; فقال العراقيون : يلزمه الطلاق والعتاق ; فإن اليمين بهما تنعقد بالكناية مع النية . وقال صاحب التتمة : لا يلزمه ذلك وإن نواه ما لم يتلفظ به ; لأن الصريح لم يوجد ، والكناية إنما يترتب عليها الحكم فيما يتضمن الإيقاع ، فأما الالتزام فلا ، ولهذا لم يجعل الشافعي الإقرار [ ص: 64 ] بالكناية مع النية إقرارا لأنه التزام ، ومن ههنا قال من قال من الفقهاء كالقفال وغيره : إذا قال " الطلاق يلزمني لا أفعل " لم يقع به الطلاق وإن نواه ; لأنه كناية والكناية إنما يترتب عليها الحكم في غير الالتزامات ، ولهذا لا تنعقد اليمين بالله بالكناية مع النية .

[ مذهب أصحاب الإمام أحمد ]

وأما أصحاب أحمد فقد قال أبو عبد الله بن بطة : كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن أيمان البيعة ، فقال : لست أفتي فيها بشيء ، ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي فيها بشيء ، قال : وكان أبي رحمه الله - يعني أبا علي - يهاب الكلام فيها ، ثم قال أبو القاسم : إلا أن يلتزم الحالف بها جميع ما فيها من الأيمان ، فقال له السائل : عرفها أم لم يعرفها ؟ قال : نعم ، ووجه هذا القول أنه بالتزامه لموجبها صار ناويا له مع التلفظ ، وذلك مقتضى اللزوم ، ومتى وجد سبب اللزوم والوجوب ثبت موجبه وإن لم يعرفه ، كما لو قال : إن شفى الله مريضي فثلث مالي صدقة ، أو أوصى به ولم يعرفه ، أو قال : أنا مقر بما في هذا الكتاب ، وإن لم يعرفه ، أو قال : ما أعطيت فلانا فأنا ضامن له ، أو مالك عليه فأنا ضامنه ، صح ولزمه وإن لم يعرفه ، أو قال " ضمان عهدة هذا المبيع علي " صح ولزمه وإن لم يعرفه .

وقال أكثر أصحابنا منهم صاحب المغني وغيره : إن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيء مما فيها ; لأنها ليست بصريحة في القسم ، والكناية لا يترتب عليها مقتضاها إلا بالنية ، فمن لم يعرف شيئا لم يصح أن ينويه ، قالوا : وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم تصح أيضا ; لأنها كناية فلا يلزم حكمها إلا بالنية ، وإن عرفها ونوى اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق ; لأن اليمين بهما تنعقد بالكناية ، دون غيرهما ; لأنها لا تنعقد بالكناية .

وقال طائفة من أصحابنا : تنعقد في الطلاق والعتاق وصدقة المال دون اليمين بالله تعالى ، فإن الكفارة إنما وجبت فيها لما اشتملت عليه من حرمة الاسم المعظم الذي تعظيمه من لوازم الإيمان ، وهذا لا يوجد فيما عداه من الأيمان .

فصل

[ مذهب المالكية ]

وأما أصحاب مالك فليس عن مالك ولا عن أحد من قدماء أصحابه فيها قول ; واختلف المتأخرون ، فقال أبو بكر بن العربي : أجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق في جميع نسائه والعتق في جميع عبيده وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة ، [ ص: 65 ] والمشي إلى مكة والحج ولو من أقصى المغرب والتصدق بثلث جميع أمواله وصيام شهرين متتابعين ، ثم قال جل الأندلسيين : إن كل امرأة له تطلق ثلاثا ثلاثا ، وقال القرويون : إنما تطلق واحدة واحدة ، وألزمه بعضهم صوم سنة إذا كان معتادا للحلف بذلك ، فتأمل هذا التفاوت العظيم بين هذا القول وقول أصحاب الشافعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية