الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 265 ] المسألة الثالثة عشرة

              مبنية على ما قبلها ; فإنه إذا تعين أن العدل في الوسط ; فمأخذ الوسط ربما كان مجهولا ، والإحالة على مجهول لا فائدة فيه ; فلا بد من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم [ ص: 266 ] والقول في ذلك والله المستعان أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل ، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان ; فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره ، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها ، لا ينظر في أولها دون آخرها ، ولا في آخرها دون أولها ، فإن القضية وإن اشتملت على جمل ; فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد ، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله ، وأوله على آخره ، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف ، فإن فرق النظر في أجزائه ; فلا يتوصل به إلى مراده ، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض ، إلا في موطن واحد ، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه ، لا بحسب مقصود المتكلم ، فإذا صح له الظاهر على العربية ; رجع إلى نفس الكلام ، فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد ; فعليه بالتعبد به ، وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل ; فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر .

              غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدا بكل اعتبار ، بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت ، وعليه أكثر سور المفصل ، وتارة يكون متعددا في الاعتبار ، بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة ; كسورة البقرة ، وآل عمران والنساء ، واقرأ باسم ربك ، وأشباهها ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة ، أم نزلت شيئا بعد شيء [ ص: 267 ] ولكن هذا القسم له اعتباران : اعتبار من جهة تعدد القضايا ; فتكون كل قضية مختصة بنظرها ، ومن هنالك يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه ، ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول ; فلا فرق بينهما في التماس العلم والفقه .

              واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة ; إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال ، ويشترك معه أيضا القسم الأول ; لأنه نظم ألقي بالوحي ، وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر ، وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه الإعجاز ، وبعض مسائل نبه عليها في المسألة السابقة قبل ، [ ص: 268 ] وجميع ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات ; فاعتبار جهة النظم مثلا في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر ; فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود ، كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها .

              فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم ، واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها ، منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب ، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم ، ومنها ما هو المقصود في الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب ، ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك .

              ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام ; فبه يبين ما تقدم ، فقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله : كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون [ البقرة : 183 187 ] كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى ، وحاصله بيان الصيام وأحكامه ، وكيفية آدائه ، وقضائه ، وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبني إلا عليها .

              ثم جاء قوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية [ البقرة : 188 ] كلاما آخر بين أحكاما أخر [ ص: 269 ] وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] وانتهى الكلام على قول طائفة ، وعند أخرى أن قوله وليس البر بأن تأتوا البيوت الآية [ البقرة : 189 ] من تمام مسألة الأهلة ، وإن انجر معه شيء آخر ، كما انجر على القولين معا تذكير وتقديم لأحكام الحج في قوله قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] وقوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] نازلة في قضية واحدة ، وسورة اقرأ نازلة في قضيتين الأولى إلى قوله : علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 5 ] والأخرى ما بقي إلى آخر السورة .

              وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة ، وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات ، وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان ، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى : أحدها : تقرير الوحدانية لله الواحد الحق ، غير أنه يأتي على وجوه ; كنفي [ ص: 270 ] الشريك بإطلاق ، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة ، من كونه مقربا إلى الله زلفى ، أو كونه ولدا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة .

              والثاني : تقرير النبوة للنبي محمد ، وأنه رسول الله إليهم جميعا ، صادق فيما جاء به من عند الله ; إلا أنه وارد على وجوه أيضا ; كإثبات كونه رسولا حقا ، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو يعلمه بشر ، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم .

              والثالث : إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة ، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به ; فرد بكل وجه يلزم الحجة ، ويبكت الخصم ، ويوضح الأمر .

              فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر ، وما ظهر ببادئ الرأي خروجه عنها ; فراجع إليها في محصول الأمر ، ويتبع ذلك الترغيب والترهيب ، والأمثال والقصص ، وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك .

              فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلا وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه ; إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنيين الباقيين وإنهم إنما أنكروا ذلك بوصف البشرية ترفعا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم ، أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن كانت ; فجاءت السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها ، وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى ; فافتتحت السورة بثلاث جمل : [ ص: 271 ] إحداها وهي الآكد في المقام بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه ، وذلكقوله قد أفلح المؤمنون إلى قوله هم فيها خالدون [ المؤمنون : 1 11 ] والثانية : بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جاريا على مجاري الاعتبار والاختيار بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلا .

              والثالثة : بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق ، والإعانة على إقامة الحياة ، وأن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما ، وكفى بهذا تشريفا وتكريما .

              ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور منها كونهم من البشر ; ففي قصة نوح مع قومه قولهم : ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم [ المؤمنون : 24 ] ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم ; أي : من البشر لا من الملائكة ; فقالوا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه الآية [ المؤمنون : 33 ] ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ المؤمنون : 34 ] إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا [ المؤمنون : 38 ] أي : هو من البشر ثم قال تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه [ المؤمنون : 44 ] فقوله : رسولها مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها [ ص: 272 ] ثم ذكر موسى وهارون ورد فرعون وملئه بقولهم أنؤمن لبشرين مثلنا [ المؤمنون : 47 ] إلخ هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية ، تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام ، ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لا غض فيه ، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر ، يأكلون ويشربون كجميع الناس ، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى ; فقال بعد تقرير رسالة موسى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية [ المؤمنون : 50 ] وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان ، ثم قال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات [ المؤمنون : 51 ] أي : هذا من نعم الله عليكم ، والعمل الصالح شكر تلك النعم ، ومشرف للعامل به ; فهو الذي يوجب التخصيص لا الأعمال السيئة ، وقوله : وإن هذه أمتكم أمة واحدة [ المؤمنون : 52 ] إشارة إلى التماثل بينهم ، وأنهم جميعا مصطفون من البشر ، ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ ; فقال : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : وهم لها سابقون [ المؤمنون : 57 61 ] وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا ; فهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود مضافا إلى المعنى الآخر ، وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية ; استكبارا من أشرافهم ، وعتوا على الله ورسوله ; فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار ، وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة ، والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف ; فإن التارات السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف ، وأصله العدم ; فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار ، والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها ، ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة [ ص: 273 ] الجارية ; فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق ، فهذا كله كالتنكيت عليهم ، والله أعلم .

              ثم ذكر القصص في قوم نوح : فقال الملأ الذين كفروا من قومه [ المؤمنون : 24 ] والملأ هم الأشراف .

              وكذلك فيمن بعدهم : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم الآية [ المؤمنون : 33 ] وفي قصة موسى أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [ المؤمنون : 47 ] ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام ، ثم قوله : فذرهم في غمرتهم حتى حين إلى قوله : لا يشعرون [ المؤمنون : 54 56 ] رجوع إلى وصف أشراف قريش وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين ; فرد عليهم بأن الذي يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قوله : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون [ المؤمنون : 57 ] ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم ، وذكر النعم عليهم ، والبراهين على صحة النبوة ، وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية ، ونفي الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين ، حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين ; فهذا النظر إذا اعتبر كليا في السورة وجد على أتم من هذا الوصف ، لكن على منهاجه وطريقه ، ومن أراد الاعتبار في [ ص: 274 ] سائر سور القرآن ; فالباب مفتوح ، والتوفيق بيد الله ; فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد .

              وبالجملة ; فحيث ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ; كنوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ; فإنما ذلك تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام وتثبيت لفؤاده لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة ، فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله ، وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال ، والجميع حق واقع لا إشكال في صحته ، وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذي في النظر في القرآن لمن أراد فهم القرآن ، والله المستعان .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية