الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

هذه آية وعد للمؤمنين بستر الذنوب عليهم؛ وبالجنة؛ فهي الأجر العظيم؛ و"وعد"؛ يتعدى إلى مفعولين؛ ويجوز الاقتصار على أحدهما؛ وكذلك هو في هذه الآية؛ فالمفعول الثاني مقدر؛ يفسره ويدل عليه قوله: "لهم مغفرة"؛ ثم عقب تعالى بذكر حال الكفار؛ ليبين الفارق.

وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خطاب للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - وأمته؛ والنعمة هي [ ص: 124 ] العاملة في "إذ"؛ وهي نعمة مخصوصة؛ و"هم الرجل بالشيء"؛ إذا أراد فعله؛ ومنه قول الشاعر:


هل ينفعنك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم؟



ومنه قول الآخر:


هممت ولم أفعل وكدت وليتني ...     تركت على عثمان تبكي حلائله



واختلف الناس في سبب هذه الآية؛ وما النازلة التي وقع فيها الهم ببسط اليد؛ والكف من الله تعالى ؟؛ فقال الجمهور: إن سبب هذه الآية أنه لما قتل أهل بئر معونة نجا من القوم عمرو بن أمية الضمري ؛ ورجل آخر معه؛ فلقيا بقرب المدينة رجلين من سليم؛ قد كانا أخذا عهدا من النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وانصرفا؛ فسألهما عمرو : ممن أنتما؟ فانتسبا إلى بني عامر بن الطفيل ؛ وهو كان الجاني على المسلمين في بئر معونة؛ فقتلهما عمرو وصاحبه؛ وأتيا بسلبهما النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ فقال: "لقد قتلتما قتيلين؛ لأدينهما"؛ ثم شرع رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - في جمع الدية؛ فذهب يوما إلى بني النضير يستعينهم في الدية؛ ومعه أبو بكر ؛ وعمر ؛ وعلي - رضي الله عنهم -؛ فكلمهم؛ فقالوا: نعم يا أبا القاسم ؛ انزل حتى نصنع لك طعاما؛ وننظر في معونتك؛ فنزل رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - في ظل جدار؛ فتآمروا بينهم في قتله؛ وقالوا: ما ظفرتم بمحمد قط أقرب مراما منه [ ص: 125 ] اليوم؛ فقال بعضهم لبعض: من رجل يظهر على الحائط فيصب عليه حجرا يشدخه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش؛ فيما روي؛ وجاء جبريل فأخبر النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ فقام رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - من المكان؛ وتوجه إلى المدينة؛ ونزلت الآية في ذلك؛ وفي الخبر زوائد لا تخص الآية؛ وقد ذكره ابن إسحاق وغيره؛ وهذا القول يترجح بما يأتي بعد من الآيات في وصف غدر بني إسرائيل؛ ونقضهم المواثيق.

وقالت جماعة من العلماء: سبب الآية فعل الأعرابي في غزوة "ذات الرقاع"؛ وهي غزوة النبي - صلى اللـه عليه وسلم - بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان؛ وذلك أنه نزل بواد كثير العضاه؛ فتفرق الناس في الظلال؛ وتركت للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - شجرة ظليلة؛ فعلق سيفه بها؛ ونام؛ فجاء رجل من محارب؛ فاخترط السيف؛ فانتبه النبي - صلى اللـه عليه وسلم - والسيف صلت في يده؛ فقال للنبي - صلى اللـه عليه وسلم -: أتخافني؟ فقال: "لا"؛ فقال له: ومن يمنعك مني؟ فقال: "الله"؛ فشام السيف في غمده؛ وجلس؛ وفي البخاري أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي - صلى اللـه عليه وسلم - ولم يعاقبه؛ وذكر الواقدي ؛ وابن أبي حاتم عن أبيه أنه أسلم؛ وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق الشجرة حتى مات؛ فنزلت الآية بسبب ذلك؛ وفي البخاري ؛ في غزوة "ذات الرقاع"؛ أن اسم الرجل غورث بن الحارث - بالغين منقوطة -؛ وحكى بعض الناس أن اسمه دعثور بن الحارث .

وحكى الطبري أن الآية نزلت بسبب قوم من اليهود أرادوا قتل النبي - صلى اللـه عليه وسلم - في طعام؛ فأشعره الله بذلك؛ ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة عن ابن عباس خلاف ما ترجم به؛ من أن قوما من اليهود صنعوا للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فيشبه أن ابن عباس إنما وصف قصة بني النضير المتقدمة.

[ ص: 126 ] وقال قتادة : سبب الآية ما همت به محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر؛ فأشعره الله - تبارك وتعالى- بذلك؛ ونزلت صلاة الخوف؛ فذلك كف أيديهم عن المسلمين.

وحكى ابن فورك عن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت بسبب أن قريشا بعثت إلى النبي - صلى اللـه عليه وسلم - رجلا ليغتاله؛ ويقتله؛ فأطلعه الله تبارك وتعالى على ذلك؛ وكفاه شره.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والمحفوظ في هذا هو نهوض عمير بن وهب لهذا المعنى؛ بعد اتفاقه على ذلك مع صفوان بن أمية ؛ والحديث بكماله في سير ابن هشام .

وذكر قوم من المفسرين - وأشار إليه الزجاج - أن الآية: نزلت في قوله تعالى: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ؛ فكأنه تبارك وتعالى عدد على المؤمنين نعمه في أن أظهرهم؛ وكف بذلك أيدي الكفار عنهم التي كانوا هموا ببسطها إلى المؤمنين.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويحسن - على هذا القول - أن تكون الآية نزلت عقب غزوة الخندق؛ وحين هزم الله الأحزاب؛ وكفى الله المؤمنين القتال؛ وباقي الآية أمر بالتقوى والتوكل.

التالي السابق


الخدمات العلمية