الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( 63 ) )

[ ص: 230 ] يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( لا تجعلوا أيها المؤمنون دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : نهى الله بهذه الآية المؤمنين أن يتعرضوا لدعاء الرسول عليهم ، وقال لهم : اتقوا دعاءه عليكم ، بأن تفعلوا ما يسخطه ، فيدعو لذلك عليكم فتهلكوا ، فلا تجعلوا دعاءه كدعاء غيره من الناس ، فإن دعاءه موجبة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) دعوة الرسول عليكم موجبة ، فاحذروها .

وقال آخرون : بل ذلك نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء ، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( كدعاء بعضكم بعضا ) قال : أمرهم أن يدعوا : يا رسول الله ، في لين وتواضع ، ولا يقولوا : يا محمد ، في تجهم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله ، ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) قال : أمرهم أن يدعوه : يا رسول الله ، في لين وتواضع .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) قال : أمرهم أن يفخموه ويشرفوه .

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس ، وذلك أن الذي قبل قوله : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) نهي من الله المؤمنين أن يأتوا من الانصراف عنه في الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه ، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه ، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه أن يضطره إلى الدعاء عليهم أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء .

[ ص: 231 ] وقوله : ( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) يقول تعالى ذكره : إنكم أيها المنصرفون عن نبيكم بغير إذنه ، تسترا وخفية منه ، وإن خفي أمر من يفعل ذلك منكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله يعلم ذلك ، ولا يخفى عليه ، فليتق من يفعل ذلك منكم ، الذين يخالفون أمر الله في الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ، أن تصيبهم فتنة من الله ، أو يصيبهم عذاب أليم ، فيطبع على قلوبهم ، فيكفروا بالله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : ثنا عمرو بن قيس ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قول الله : ( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) قال : كانوا يستتر بعضهم ببعض ، فيقومون ، فقال : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ) قال : يطبع على قلبه ، فلا يأمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه .

حدثنا ابن القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) قال : خلافا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) قال : هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : اللواذ : يلوذ عنه ، ويروغ ويذهب بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) الذين يصنعون هذا أن تصيبهم فتنة ، أو يصيبهم عذاب أليم . الفتنة هاهنا : الكفر ، واللواذ : مصدر لاوذت بفلان ملاوذة ولواذا ، ولذلك ظهرت الواو ، ولو كان مصدرا للذت لقيل : لياذا ، كما يقال : قمت قياما ، وإذا قيل : قاومتك ، قيل : قواما طويلا . واللواذ : هو أن يلوذ القوم بعضهم ببعض ، يستتر هذا بهذا ، وهذا بهذا ، كما قال الضحاك .

وقوله : ( أو يصيبهم عذاب أليم ) يقول : أو يصيبهم في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع ، على صنيعهم ذلك ، وخلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) وأدخلت " عن " ; لأن معنى الكلام : فليحذر الذين يلوذون عن أمره ، ويدبرون عنه معرضين .

التالي السابق


الخدمات العلمية