الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [3 - 4] فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا

                                                                                                                                                                                                                                      فالجاريات يسرا أي: السفن الجارية في البحر سهلا، أو الرياح الجارية في مهابها، أو الكواكب التي تجري في منازلها. و يسرا صفة مصدر محذوف، أو جريا ذا يسر.

                                                                                                                                                                                                                                      فالمقسمات أمرا أي: الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة، أو الرياح يقسمن الأمطار بتصريف الرياح.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول:- ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أمورا متباينة، وأن تكون أمرا له أربعة اعتبارات. والأول هو المأثور عن علي رضي الله عنه: أن الذاريات هي الرياح، والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة. واختار بعضهم في (الجاريات) أنها الكواكب؛ ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى

                                                                                                                                                                                                                                      فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق ذلك، والملائكة فوق الجميع، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية.

                                                                                                                                                                                                                                      واستظهر الرازي أن الأقرب أن تكون صفات أربع للرياح، وأطال في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      واللفظ متسع بجوهره للكل، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: فائدة (الفاء) إن قيل: إنها صفات للرياح، فلبيان ترتيب الأمور في الوجود؛ فإن الذاريات تنشئ السحاب، فتقسم الأمطار على الأقطار. وإن قيل: إنها أمور أربعة، فالفاء للترتيب الذكري أو الرتبي.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: ذكر الرازي في الحكمة في القسم وجوها:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها:- أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبي صلى الله عليه وسلم غالبا في إقامة [ ص: 5522 ] الدليل، وكانوا ينسبونه إلى المجادلة، وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله، وأنه يغلبنا بقوة الجدل لا بصدق المقال. كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل ولم يبق له حجة، يقول: إنه غلبني لعلمه بطريق الجدل، وعجزي عن ذلك. وهو يعلم في نفسه أن الحق بيدي، فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين، فيقول: والله إن الأمر كما أقول، ولا أجادلك بالباطل. وذلك لأنه لو سلك طريقا آخر من ذكر دليل آخر، فإذا تم الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول، إن ذلك تقرير بقوة علم الجدل، فلا يبقى إلا السكوت، أو التمسك بالإيمان، وترك إقامة البرهان.

                                                                                                                                                                                                                                      ثانيها:- أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم « أكثر من الأيمان بكل شريف » ، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا. وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذبا، وإلا لأصابه شؤم الأيمان، ولناله المكروه في بعض الأزمان.

                                                                                                                                                                                                                                      ثالثها:- أن الأيمان التي أقسم الله تعالى بها كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان، مثاله قول القائل لمنعمه: وحق نعمتك الكثيرة إني لا أزال أشكرك. فيذكر النعم، وهي سبب مفيد لدوام الشكر، ويسلك مسلك القسم، كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: فلم أخرجها مخرج الأيمان؟ نقول: لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم، فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر؛ فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين، حيث أقبل القول على سماعه، فخرج لهم البرهان المبين والتبيان المتين في صورة اليمين. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية