الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      واختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : من أحصاها ، فقال البخاري وغيره من المحققين : معناه حفظها ، وأن إحدى الروايتين مفسرة للأخرى . وقال الخطابي : يحتمل وجوها :

      أحدها : أن يعدها حتى يستوفيها ، بمعنى أن لا يقتصر على بعضها فيدعو الله بها كلها ، ويثني عليه بجميعها ، فيستوجب الموعود عليها من الثواب .

      وثانيها : المراد بالإحصاء الإطاقة ، والمعنى : من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها ، وهو أن يعتبر معانيها ، فيلزم نفسه بمواجبها ، فإذا قال الرزاق ، وثق بالرزق ، وكذا سائر الأسماء .

      ثالثها : المراد بها الإحاطة بجميع معانيها ، وقيل أحصاها عمل بها ، فإذا قال الحكيم ، سلم لجميع أوامره وأقداره ، وأنها جميعها على مقتضى الحكمة ، وإذا قال القدوس ، استحضر كونه مقدسا منزها عن جميع النقائض ، واختاره أبو الوفاء بن عقيل ، وقال ابن بطال : طريق العمل بها أن ما كان يسوغ الاقتداء به كالرحيم والكريم فيمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها ، يعني فيما يقوم به ، وما كان يختص به نفسه كالجبار والعظيم ، فعلى العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها ، وما كان فيه معنى الوعد ، يقف فيه عند الطمع والرغبة ، وما كان فيه معنى الوعيد ، يقف منه عند الخشية والرهبة ا هـ .

      والظاهر أن معنى حفظها وأحصاها هو معرفتها والقيام بعبوديتها ، كما أن القرآن لا ينفع حفظ ألفاظه من لا يعمل به ، بل جاء في المراق من الدين أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم .

      [ ص: 126 ] وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - بعد كلام طويل على أولوية الله - تعالى - وما في ذلك الشهود من الغنى التام ، قال : وليس هذا مختصا بأوليته - تعالى - فقط ، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب - سبحانه - يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها ، فمن شهد مشهد علو الله - تعالى - على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه ، كما أخبر بها أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق ، وتعبد بمقتضى هذه الصفة ، بحيث يصير لقلبه صمد يعرج إليه مناجيا له مطرقا واقفا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز ، فيشعر بأن كلمه وعلمه صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه ، فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك ، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء ، والتولية والعزل ، والخفض والرفع ، والعطاء والمنع ، وكشف البلاء وإرساله ، وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس ، إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه ، فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) ، ( السجدة : 5 ) .

      فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية ، استغنى به ، وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات ، ولا في قرار البحار ، ولا تحت أطباق الجبال ، بل أحاط بذلك علمه علما تفصيليا ، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته ، وجميع أحواله وعزماته وجوارحه ، علم أن حركاته الظاهرة والباطنة ، وخواطره وإرادته ، وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية ، بادية لا يخفى عليه منها شيء ، وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه - سبحانه - لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها ، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به ، لا يشغله جهر من جهر عن سمعه صوت من أسر ، ولا يشغله سمع عن سمع ، ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها ، فهي عنده كلها كصوت واحد ، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة ، وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير - جل جلاله - الذي يرى دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في حندس الظلماء ، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ، ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ، ويرى مد البعوضة [ ص: 127 ] جناحها في ظلمة الليل ، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاته وسكناته ، وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه ، ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء .

      وكذلك إذا شهد مشهد القيومية ، الجامع لصفات الأفعال ، وأنه قائم على كل شيء ، وقائم على كل نفس بما كسبت ، وأنه - تعالى - هو القائم بنفسه ، المقيم لغيره ، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن وجزاء المسيء إليه ، وأنه بكامل قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا يضل ولا ينسى .

      وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين ، وهو مشهد الربوبية ، وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن إلهية ما سواه باطل ومحال ، كما أن ربوبية ما سواه كذلك ، فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد ، ويصلى له ويسجد ، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل ; لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله ، فهو المطاع وحده على الحقيقة ، والمألوه وحده ، وله الحكم فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال ، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها ، وكل غنى بغيره فقر وفاقة ، وكل عز بغيره ذل وصغار ، وكل تكثر بغيره قلة وذلة .

      فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره ، فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره ، فهو الذي انتهت إليه الرغبات ، وتوجهت نحوه الطلبات ، ويستحيل أن يكون معه إله آخر ، فإن الإله على الحقيقة هو الغني الصمد الكامل في أسمائه وصفاته الذي حاجة كل أحد إليه ، ولا حاجة به إلى أحد ، وقيام كل شيء به ، وليس قيامه بغيره ، إلى أن قال : فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء ، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات ، وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات ، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله - جل جلاله - فإن هذا الاسم هو الجامع ، ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه ، فيقال الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله ، ولا يقال الله من أسماء الرحمن ، قال الله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى ) ، فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه ، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته ، فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب مع كمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية ، فقد تم له غناه بالإله الحق ، وصار [ ص: 128 ] من أغنى العباد ، ولسان مثل هذا يقول :


      غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإن الغنى العالي عن الشيء لا به

      ا هـ .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية