الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما من قال: لا يوجد اليوم منافق، إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مخطئ بإجماع المسلمين، بل قد قال حذيفة بن اليمان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: إن النفاق اليوم أكثر منه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وهذا موجود في سائر الأعصار، بل إذا كان مع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وسماع كلامه يكون المنافقون موجودين فبعده أولى وأحرى.

وأما قوله: إنه يقال زنديق، ولا يقال منافق، فهذا جهل منه، فإن لفظ "زنديق" لفظ معرب لم ينطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولكن نطقت به الفرس، فأخذته العرب فعربته. ومعنى الزنديق الذي تنازع الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولهذا قال الفقهاء: إن الزنديق هو المنافق، وتنازعوا في قبول توبته. واحتج الشافعي وغيره ممن يرى قبول توبة الزنديق بأن المنافقين الذي كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله. وكذلك تكلم [ ص: 134 ] الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم في أحكام الزنديق، مثل ميراثه، ووجوب إعادة ما فعله من العبادات، وأمثال ذلك، وكلهم يحتج على ذلك بأحكام النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين كانوا على عهده، وذلك لعلم الأئمة أن الزنديق هو المنافق، وكل زنديق يظهر الإسلام ويبطن الكفر فإنه منافق، يسمى منافقا، ويدخل في المنافقين المذكورين في القرآن، ومن أنكر هذا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.

واسم النفاق والكفر ونحوهما قد يعبر به عن بعض شعب الكفر والنفاق، وهذا هو النفاق الأصغر وهو الذي خافته الصحابة على أنفسهم، كما في صحيح مسلم أن حنظلة الكاتب لقي أبا بكر الصديق فقال: نافق حنظلة، نافق حنظلة.

وذكر البخاري عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه. وقد صنف جعفر بن محمد الفريابي الحافظ كتابا في صفة المنافق ، ذكر فيه من الأحاديث والآثار ما لا يتسع له هذا الموضع، وقد قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، فأولئك هم الفاسقون ، فأولئك هم الظالمون ، [ ص: 135 ] قال: كفر دون كفر، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، والرياء شرك" وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والاستسقاء بالأنواء" وفي حديث آخر: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم" . ونظائر ذلك كثيرة، والله أعلم. [ ص: 136 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية