الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ولو ترى الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو لكل من يصلح له كما تقدم تحقيقه في غير موضع ، والمعنى : ولو رأيت ؛ لأن لو تقلب المضارع ماضيا ، و إذ ظرف لترى ، والمفعول محذوف : أي ولو ترى الكافرين وقت توفي الملائكة لهم ، قيل : أراد بالذين كفروا من لم يقتل يوم بدر ، وقيل : هي فيمن قتل ببدر وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما ، وجملة يضربون وجوههم في محل نصب على الحال ، والمراد بأدبارهم أستاههم ، كنى عنها بالأدبار ، وقيل : ظهورهم ، قيل : هذا الضرب يكون عند الموت كما يفيده ذكر التوفي ، وقيل : هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وذوقوا عذاب الحريق قاله الفراء ، المعنى : ويقولون ذوقوا عذاب الحريق ، والجملة معطوفة على يضربون ، وقيل : إنه يقول لهم هذه المقالة خزنة جهنم ، والذوق قد يكون محسوسا ، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار ، وأصله من الذوق بالفم .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة بقوله : ذلك إلى ما تقدم من الضرب والعذاب ، والباء في بما قدمت أيديكم سببية : أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي واقترفتم من الذنوب ، وجملة وأن الله ليس بظلام للعبيد في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي والأمر أنه لا يظلمهم ، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبرا لقوله : ذلك وهي بما قدمت أيديكم أي ذلك العذاب بسبب المعاصي ، وبسبب وأن الله ليس بظلام للعبيد لأنه - سبحانه - قد أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأوضح لهم السبيل ، وهداهم النجدين كما قال - سبحانه - : وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( النحل : 118 ) .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : كدأب آل فرعون لما ذكر الله - سبحانه - ما أنزله بأهل بدر أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين ، والدأب : العادة ، والكاف في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف : أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون والذين من قبلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك ، فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر ، وجملة قوله : كفروا بآيات الله مفسرة لدأب آل فرعون : أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله ، فتسبب عن كفرهم أخذ الله - سبحانه - لهم ، والمراد بذنوبهم : معاصيهم المترتبة على كفرهم ، فيكون الباء في بذنوبهم للملابسة ، أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها ، وجملة إن الله قوي شديد العقاب معترضة مقررة لمضمون ما قبلها .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة بقوله : ذلك إلى العقاب الذي أنزله الله بهم ، وهو مبتدأ وخبره ما بعده ، والجملة جارية مجرى التعليل لما حل بهم من عذاب الله .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمط إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه ، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ، ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين ، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ، ومن عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه والعمل به من شكرها وقبولها ، وجملة وأن الله سميع عليم معطوفة على بأن الله لم يك مغيرا نعمة داخلة معها في التعليل : أي ذلك بسبب أن الله لم يك مغيرا إلخ ، وبسبب أن الله سميع عليم يسمع ما يقولونه ويعلم ما يفعلونه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم كرر ما تقدم ، فقال : كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم لقصد التأكيد مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بأنه كان بالإغراق ، وقيل : إن الأول باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم ، والثاني باعتبار ما فعل بهم ، وقيل : المراد بالأول كفرهم بالله ، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء ، وقيل : غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف ، والكلام في أهلكناهم بذنوبهم كالكلام المتقدم في فأخذهم الله بذنوبهم ، وأغرقنا آل فرعون معطوف على " أهلكناهم " عطف الخاص على العام لفظاعته وكونه من أشد أنواع الإهلاك ، ثم حكم على الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم ، ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم ، بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله وبالظلم لغيرهم ، كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك ، في قوله : إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة قال : الذين قتلهم الله ببدر من المشركين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن الحسن قال : قال [ ص: 546 ] رجل : يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك قال : ذلك ضرب الملائكة وهذا مرسل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وأدبارهم قال : وأستاههم ، ولكن الله كريم يكني .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم قال : نعمة الله : محمد - صلى الله عليه وسلم - أنعم الله به على قريش فكفروا فنقله الله إلى الأنصار .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية