الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ذلك إشارة إلى ما ذكر من التبديل، وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد رتبته في الفظاعة أو إلى مصدر قوله تعالى جزيناهم كما قيل في قوله سبحانه: وكذلك جعلناكم أمة وسطا [البقرة: 143] ومحله على الأول النصب على أنه مفعول ثان، وعلى الثاني النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور، والتقديم للتعظيم والتهويل، وقيل للتخصيص أي ذلك التبديل جزيناهم لا غيره أو ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاء آخر بما كفروا بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها، وقيل بسبب كفرهم بالرسل الثلاثة عشر الذين بعثوا إليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      واستشكل هذا مع القول بأن السيل العرم كان زمن الفترة بأن الجمهور قالوا: لا نبي بين نبينا وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ومن الناس من قال: بينهما صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب ، وهو خالد العبسي وهو قد بعث لقومه وبنو إسرائيل لم يبعثوا للعرب، وأجيب بأن ما كان زمن الفترة هو السيل العرم لا غير والرسل الثلاثة عشر هم جملة من كان في قومهم من سبأ بن يشجب إلى أن أهلكهم الله تعالى أجمعين، فتأمل ولا تغفل.

                                                                                                                                                                                                                                      وهل نجازي إلا الكفور أي ما نجازي مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران أو الكفر فلا يتوجه على الحصر إشكال أن المؤمن قد يعاقب في العاجل، وفي الكشف لا يراد أن المؤمن أيضا يعاقب فإنه ليس بعقاب على الحقيقة بل تمحيص ولأنه أريد المعاقبة بجميع ما يفعله من السوء، ولا كذلك للمؤمن، ولا مانع من أن يكون الجزاء عاما في كل مكافآت وأريد به المعاقبة مطلقا من غير تقييد بما سبق لقرينة جزيناهم بما كفروا لتعيين المعاقبة فيه بل قال الزمخشري : هو الوجه الصحيح وذلك لعدم الإضمار ولأن التذييل هكذا آكد وأسد موقعا، ولا يتوجه الإشكال لما في الكشف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجمهور «يجازى» بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول «الكفور» بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرئ «يجازي» بضم الياء وكسر الزاي مبنيا [ ص: 129 ] للفاعل وهو ضميره تعالى وحده «الكفور» بالنصب على المفعولية، وقرأ مسلم بن جندب «يجزى» مبنيا للمفعول «الكفور» بالرفع على النيابة، والمجازاة على ما سمعت عن الزمخشري المكافآت، لكن قال الخفاجي لم ترد في القرآن إلا مع العقاب بخلاف الجزاء فإنه عام، وقد يخص بالخير، وعن أبي إسحاق تقول جزيت الرجل في الخير وجازيته في الشر، وفي معناه قول مجاهد يقال في العقوبة يجازي وفي المثوبة يجزي.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض الأجلة: ينبغي أن يكون أبو إسحاق قد أراد أنك إذا أرسلت الفعلين ولم تعدهما إلى المفعول الثاني كانا كذلك، وأما إذا ذكرته فيستعمل كل منهما في الخير والشر، ويرد على ما ذكر جزيناهم بما كفروا وكذا «وهل يجزى» في قراءة مسلم إذ الجزاء في ذلك مستعمل في الشر مع عدم ذكر المفعول الثاني، وقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الراغب : يقال جزيته وجازيته، ولم يجئ في القرآن إلا جزى دون جازى وذلك لأن المجازاة المكافأة وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها ونعمة الله عز وجل تتعالى عن ذلك، ولهذا لا يستعمل لفظ المكافأة فيه سبحانه وتعالى، وفيه غفلة عما هنا إلا أن يقال: أراد أنه لم يجئ في القرآن جازى فيما هو نعمة مسندا إليه تعالى، فإنه لم يخطر لي مجيء ذلك فيه، والله تعالى أعلم، ويحسن عندي قول أبي حيان: أكثر ما يستعمل الجزاء في الخير والمجازاة في الشر لكن في تقييدهما قد يقع كل منهما موقع الآخر، وفي قوله سبحانه: جزيناهم بما كفروا دون جازيناهم بما كفروا على الوجه الثاني في اسم الإشارة ما يحكى تمتع القوم بما يسر، ووقوعهم بعده فيما يسيء ويضر، ويمكن أن تكون نكتة التعبير بجزى الأكثر استعمالا في الخير، ويجوز أن يكون التعبير بذاك أولا وبنجازي ثانيا ليكون كل أوفق بعلته وهذا جار على كلا الوجهين في الإشارة، فتدبر جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية