الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1636 [ ص: 9 ] ( 1 ) باب الدعاء للمدينة وأهلها

                                                                                                                        1635 - مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم بارك في مكيالهم ، وبارك لهم في صاعهم ومدهم " يعني أهل المدينة .

                                                                                                                        1636 - مالك ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ، وإنه دعاك بمكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه " ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        38501 - قال أبو عمر : أما دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس بالبركة [ ص: 10 ] لأهل المدينة في مكيالهم وصاعهم ومدهم ، فالمعنى فيه - والله عز وجل أعلم - صرف الدعاء بالبركة إلى ما يكال بالمكيال والصاع والمد من كل ما يكال ، وهذا من فصيح كلام العرب ، وأن يسمى الشيء باسم ما قرب منه ، ولو لم تكن البركة في كل ما يكال ، وكانت في المكيال لم تكن في ذلك منفعة ولا فائدة ، بل لو رفعت البركة من المكال ، فكانت في المكيال كانت مصيبة ، وهذا محال في معنى الحديث ، وقد جل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو بما لا فائدة فيه .

                                                                                                                        38502 - وفيه دليل على أن الإنفاق بالكيل أفضل منه بغير الكيل .

                                                                                                                        38503 - وقد روي مرفوعا : " كيلوا طعامكم ، يبارك لكم فيه " والفائدة في حديث أنس الدعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة لأهل المدينة في طعامهم والندب إلى استعمال الكيل في كل ما يكال ، ويمكن فيه الكيل ويوزن .

                                                                                                                        38504 - وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " المكيال مكيال أهل المدينة ، والوزن وزن أهل مكة " .

                                                                                                                        38505 - وأما حديث أبي هريرة ، ففيه من المعاني اختصاص الرئيس في [ ص: 11 ] الخير والدين والعلم والسلطان بالهدية والطرفة رجاء دعائه بالبركة ، وبرا به ، وإكراما له ، وتبركا بدعوته .

                                                                                                                        38506 - وأما دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة فمجاب كله إن شاء الله عز وجل .

                                                                                                                        وإذا كانت الإجابة موجودة لغيره ، فما ظنك به - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        38507 - وقد يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم بارك لنا " يريد نفسه وأصحابه الذين آمنوا به ، وصدقوه ، واتبعوه على دينه ، في زمانه ، وتدرك بركة تلك الدعوة في قوله : " اللهم بارك لنا " كل من كان حيا ، مولودا في مدته وكل من آمن به واتبعه من ساكني المدينة ، إن شاء الله - عز وجل - .

                                                                                                                        38508 - ومعلوم أنه لم يرد بدعائه طعام المنافقين ، ولم يدخله في دعوته تلك لأنه لم يقصدهم بذلك .

                                                                                                                        38509 - وقد ظن قوم أن هذا الحديث يدل على أن المدينة أفضل من مكة بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه ، وليس كما ظنوا لأن دعاء إبراهيم لمكة لم تعرف فضيلة مكة به وحده ، بل كان فضلها قبل أن يدعو لها .

                                                                                                                        38510 - ودعاء إبراهيم - عليه السلام - قد علمناه بما نطق به القرآن في [ ص: 12 ] قوله - عز وجل - " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر " الآية [ البقرة : 126 ] .

                                                                                                                        38511 - وقد كانت مكة حرما آمنا بدليل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس " وقوله - عليه السلام - : " إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض " .

                                                                                                                        38512 - وأجمع المسلمون على القول بأن مكة حرم الله ، وقالوا في المدينة : حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        38513 - وقد دعا إبراهيم لمكة بنحو دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمدينة .

                                                                                                                        38514 - حدثني أحمد بن عبد الله قال : حدثني الحسن بن إسماعيل قال : حدثني عبد الملك بن بحر قال : حدثني محمد بن إسماعيل قال : حدثني سنيد قال : حدثني إسماعيل ابن علية ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في الحديث الطويل حين نزل إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر مكة ، ثم رجع إلى الشام ، ثم عاد إليها بعد مدة وقد ماتت أم إسماعيل ، وتزوج إسماعيل في جرهم ، فوجد امرأته في المرة الثانية ، ولم يجد إسماعيل ، فسألها [ ص: 13 ] عنه ، فقالت : مر إلى الصيد ، فقال : وما طعامكم ؟ قالت : اللحم والماء . فقال : اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم . قالها ثلاثا .

                                                                                                                        38515 - وحدثني محمد بن عبد الله بن حكم قال : حدثني محمد بن معاوية قال : حدثني إسحاق بن أبي حسان قال : حدثني هشام بن عمار قال : حدثني حاتم بن إسماعيل قال : حدثني حميد ، عن عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله - عز وجل - : " رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " [ البقرة : 126 ] قال : كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون غيرهم ، فقال الله - عز وجل - : " ومن كفر " أيضا ، فإني أرزقه كما أرزق المؤمنين ، أأخلق خلقا لا أرزقهم ؟ أمتعهم قليلا ، ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ، ثم قرأ ابن عباس " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " [ الإسراء : 20 ] .

                                                                                                                        38516 - ذكر الفريابي قال : حدثني قيس بن الربيع ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، في قوله - عز وجل - : " وارزق أهله من الثمرات " . قالا : سأل الرزق لمن آمن .

                                                                                                                        38517 - قال أبو عمر : ولو كان الدعاء للمدينة بالبركة دليلا على [ ص: 14 ] فضلها على مكة ، لكانت الشام واليمن أفضل من مكة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بالبركة لأهلها ، ولم يذكر في ذلك الحديث مكة ، وهذا لا يقوله مسلم .

                                                                                                                        38518 - أخبرنا عبد الوارث قال : حدثني قاسم قال : حدثني الخشني قال : حدثني محمد بن المثنى قال : حدثني حسين بن الحسن ، عن ابن عوف ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        38519 - وذكره البخاري قال : حدثني علي ابن المديني قال : حدثني أزهر بن سعد السمان ، عن ابن عون ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم يرفعه في كتاب البخاري أنه قال : " اللهم بارك لنا في شامنا ، اللهم بارك لنا في يمننا " قالوا : يا رسول الله ، وفي نجدنا ، فأظنه قال في الثالثة : " هناك الزلازل والفتن ، وبها يطلع قرن الشيطان " لفظ البخاري .

                                                                                                                        38520 - وليس في حديث ابن المثنى : " فأظنه قال في الثالثة : فقال في نجدنا قال : هنالك الزلازل . . إلخ " .

                                                                                                                        38521 - قال أبو عمر وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته [ ص: 15 ] - صلى الله عليه وسلم - لإخباره عن الشام وهي يومئذ دار كفر ، وكان كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                        38522 - ومثل هذا حديث ابن عمر في المواقيت ، وقت لأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرنا .

                                                                                                                        35823 - ومما يدل على فضل مكة على غيرها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - . " بني الإسلام على خمس . . " فذكر منها حج البيت الحرام .

                                                                                                                        38524 - وقال - صلى الله عليه وسلم - : " الإلحاد فيه من الكبائر " .

                                                                                                                        38525 - وجعل الله الكعبة البيت الحرام قبلة للمسلمين في صلاتهم .

                                                                                                                        38526 - وقال - صلى الله عليه وسلم - : " قبلتكم أحياء وأمواتا " .

                                                                                                                        38527 - ورضي الله - عز وجل - من عباده بحط أوزارهم بأن يقصد القاصد البيت الحرام حاجا مرة في دهره .

                                                                                                                        38528 - وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني [ ص: 16 ] أبي قال : حدثني أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الخيار الزهري أخبره أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة ، يقول : " والله إنك لخير أرض الله - عز وجل - ، وأحب أرض الله - عز وجل - إلى الله - عز وجل - ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " .

                                                                                                                        38529 - وهكذا رواه صالح بن كيسان ، ويونس بن يزيد ، وعقيل بن خالد ، وعبد الرحمن بن خالد بن يزيد ، وعقيل بن خالد ، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، كلهم عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عدي بن الخيار ، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

                                                                                                                        38530 - وهو حديث لا يختلف أهل العلم بالحديث في صحته .

                                                                                                                        38531 - وأما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حين خروجه من مكة إلى المدينة : " اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي ، فأسكني أحب البلاد إليك " .

                                                                                                                        [ ص: 17 ] 38532 - وهو حديث موضوع منكر ، لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه ، وأنه موضوع وينسبون وضعه إلى محمد بن الحسن بن زبالة المدني ، وحملوا عليه فيه ، وتركوه .

                                                                                                                        38533 - وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثني علي بن مسرور قال : حدثني أحمد بن داود قال : حدثني سحنون بن سعيد قال : حدثني عبد الله بن وهب قال : حدثني مالك بن أنس أن آدم لما أهبط إلى الأرض بالهند قال : يا رب هذه أحب الأرض إليك أن تعبد فيها ؟ قال : بل مكة ، فسار آدم حتى أتى مكة ، فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيت ، ويعبدون الله - عز وجل - ، فقالوا : مرحبا يا آدم يا أبا البشر ، إنا ننتظرك هاهنا منذ ألفي سنة .

                                                                                                                        38534 - فهذه حكاية مالك - رحمه الله - وقوله وخبره عن مكة .

                                                                                                                        38535 - وفي حديث هذا الباب من الآداب وجميل الأخلاق ، وإعطاء الصغير من الولدان التحفة والطرفة وما يسر به ويعجبه ، وينفعه ، وأنه أولى بذلك من الكبير لقلة صبره ، وشدة فرحه باليسير منه .

                                                                                                                        38536 - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الأطفال ويلاطفهم ويعجبه أن يسرهم ، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة .

                                                                                                                        [ ص: 18 ] 38537 - حدثني عبد الوارث قال : حدثني قاسم قال : حدثني أبو قلابة قال : حدثني أبو ربيعة قال : حدثني جرير بن حازم ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتي بالباكورة ، دفعها إلى أصغر من يحضره من الولدان .

                                                                                                                        38538 - أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثني قاسم بن أصبغ قال : حدثني محمد بن عبد السلام الخشني قال : حدثني محمد بن بشار بندار قال : حدثني سعيد بن عامر قال : حدثني شعبة ، عن قتادة ، عن أنس قال : إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاطفنا حتى أن كان ليقول لأخ لي صغير : " يا أبا عمير ، ما فعل النغير " .




                                                                                                                        الخدمات العلمية