الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا لما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنو إسرائيل، وقالوا: لو كانت متاجرنا أبعد كان ما نجلبه منها أشهى وأغلى فطلبوا تبديل اتصال العمران وفصل المفاوز والقفار، وفي ضمن ذلك إظهار القادرين منهم على قطعها بركوب الرواحل وتزود الأزواد الفخر والكبر على الفقراء العاجزين عن ذلك، فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسطة وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب، والظاهر أنهم قالوا ذلك بلسان القال، وجوز الإمام أن يكونوا قالوا باعد بلسان الحال أي فلما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام « بعد » بتشديد العين فعل طلب، وابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن قائد «ربنا» رفعا «بعد» بالتشديد فعلا ماضيا، وابن عباس وابن الحنفية أيضا وأبو رجاء والحسن ويعقوب وزيد بن علي وأبو صالح وابن أبي ليلى والكلبي ومحمد بن علي وسلام وأبو حيوة «ربنا» رفعا و «باعد» طلبا من المفاعلة، وابن الحنفية أيضا وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وسفيان بن حسين وابن السميقع «ربنا» بالنصب «بعد» بضم العين فعلا ماضيا «بين» بالنصب إلا سعيدا منهم فإنه يضم النون ويجعل «بين» فاعلا، ومن نصب فالفاعل عنده ضمير يعود على «السير» ومن نصب «ربنا» جعله منادى فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا وبطرا، وفاعل بمعنى فعل وإن جاء فعلا ماضيا كان ذلك شكوى من مسافة ما بين قراهم مع قصرها لتجاوزهم في الترفه والتنعم أو شكوى مما حل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها بعد وقوعها أو دعاء بلفظ الخبر، ومن رفع «ربنا» فلا يكون الفعل عنده إلا ماضيا والجملة خبرية متضمنة للشكوى على ما قيل، ونصب «بين» بعد كل فعل متعد في إحدى القراءات ماضيا كان أو طلبا عند أبي حيان على أنه مفعول به، وأيد ذلك بقراءة الرفع أو على الظرفية، والفعل منزل منزلة اللازم أو متعد مفعوله محذوف، أي السير وهو أسهل من إخراج الظرف الغير المتصرف [ ص: 131 ] عن ظرفيته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ «بوعد» مبنيا للمفعول، وقرأ ابن يعمر «سفرنا» بالأفراد.

                                                                                                                                                                                                                                      وظلموا أنفسهم حيث عرضوها للسخط والعذاب حين بطروا النعمة وغمطوها فجعلناهم أحاديث جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب لا جمع حديث على خلاف القياس، وجعلهم نفس الأحاديث إما على المبالغة أو تقدير المضاف أي جعلناهم بحديث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل المراد لم يبق منهم إلا الحديث عنهم، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث ومزقناهم كل ممزق أي فرقناهم كل تفريق، على أن الممزق مصدر أو كل مطرح ومكان تفريق على أنه اسم مكان، وفي التعبير بالتمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرقه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى أي مزقناهم تمزيقا لا غاية وراءه بحيث يضرب مثلا في كل فرقة ليس بعدها وصال، وعن ابن سلام أن المراد جعلناهم ترابا تذروه الرياح وهو أوفق بالتمزيق، إلا أن جميع أجلة المفسرين على خلافه وأن المراد بتمزيقهم تفريقهم بالتباعد، وقد تقدم لك غير بعيد حديث كيفية تفرقهم في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفروة بن مسيك.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكشاف لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان، وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة وأسد بالبحرين وخزاعة بتهامة، وظاهر الآية أن ذلك كان بعد إرسال السيل العرم. وفي البحر أن في الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء السيل على مأرب تيامن منها ستة قبائل وتشاءمت أربعة، وزعم بعضهم أن تفرقهم كان قبيل مجيء السيل.

                                                                                                                                                                                                                                      قال عبد الملك في شرح قصيدة ابن عبدون: إن أرض سبأ من اليمن كانت العمارة فيها أزيد من مسيرة شهرين للراكب المجد، وكان أهلها يقتبسون النار بعضهم من بعض مسيرة أربعة أشهر فمزقوا كل ممزق وكان أول من خرج من اليمن في أول الأمر عمرو بن عامر ، وكان سبب خروجه أنه كانت له زوجة كاهنة يقال لها طريفة الخير وكانت رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه ففزعت طريفة لذلك فزعا شديدا وأتت الملك عمرا وهي تقول ما رأيت كاليوم أزال عني النوم رأيت غيما أرعد وأبرق وزمجر وأصعق فما وقع على شيء إلا أحرق، فلما رأى ما داخلها من الفزع سكنها، ثم إن عمرا دخل على حديقة له ومعه جاريتان من جواريه فبلغ ذلك طريفة فحرجت إليه وخرج معها وصيف لها اسمه سنان فلما برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجد منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن وهي دواب تشبه اليرابيع فقعدت إلى الأرض واضعة يديها على عينيها وقالت لوصيفها: إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرني، فلما ذهبت أخبرها فانطلقت مسرعة، فلما عارضها الخليج الذي في حديقة عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تروم الانقلاب فلا تستطيع وتستعين بذنبها فتحثو التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول على بطنها قذفا فلما رأتها طريفة جلست إلى الأرض فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت طريفة إلى أن دخلت على عمرو وذلك حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها فإذا الشجر يتكافأ من غير ريح، فلما رآها استحى منها وأمر الجاريتين بالانصراف إلى ناحية ثم قال لها يا طريفة فكهنت وقالت: والنور والظلماء والأرض والسماء إن الشجر لهالك وليعودن الماء كما كان في الزمن السالك قال عمرو : من أخبرك بهذا؟ قالت: أخبرتني المناجد بسنين شدائد يقطع فيها الولد الوالد، قال: ما تقولين؟ قالت: أقول قول الندمان لهيفا لقد رأيت سلحفا تجرف التراب [ ص: 132 ] جرفا وتقذف بالبول قذفا، فدخلت الحديقة فإذا الشجر من غير ريح يتكفى، قال: ما ترين في ذلك؟ قالت: هي داهية دهياء من أمور جسيمة ومصائب عظيمة، قال: وما هو ويلك؟ قالت: أجل، وإن فيه الويل، ومالك فيه من نيل، وإن الويل فيما يجيء به السيل، فألقي عمرو عن فراشه وقال: ما هذا يا طريفة؟ قالت: خطب جليل وحزن طويل وخلف قليل، قال: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: اذهب إلى السد فإذا رأيت جرذا يكثر بيديه في السد الحفر ويقلب برجليه من أجل الصخر، فاعلم أن الغمر غمر وأنه قد وقع الأمر، قال: وما الذي تذكرين؟ قالت: وعد من الله تعالى نزل وباطل بطل ونكال بنا نكل، فبغيرك يا عمرو يكون، الثكل فانطلق عمرو فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلها خمسون رجلا فرجع وهو يقول:


                                                                                                                                                                                                                                      أبصرت أمرا عادني منه ألم وهاج لي من هوله برح السقم     من جرذ كفحل خنزير الأجم
                                                                                                                                                                                                                                      أو كبش صرم من أفاويق الغنم     يسحب قطرا من جلاميد العرم
                                                                                                                                                                                                                                      له مخاليب وأنياب قضم     ما فاته سحلا من الصخر قصم



                                                                                                                                                                                                                                      فقالت طريفة: وإن من علامة ذلك الذي ذكرته لك أن تجلس فتأمر بزجاجة فتوضع بين يديك فإن الريح يملؤها من تراب البطحاء من سهل الوادي وحزنه، وقد علمت أن الجنان مظللة لا يدخلها شمس ولا ريح فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه ولم تمكث إلا قليلا حتى امتلأت من التراب فأخبرها بذلك، وقال لها: متى يكون ذلك الخراب الذي يحدث في السد؟ قالت له: فيما بيني وبينك سبع سنين، قال: ففي أيها يكون؟ قالت: لا يعلم بذلك إلا الله تعالى، ولو علمه أحد لعلمته، وأنه لا تأتي علي ليلة فيما بيني وبين السبع سنين إلا ظننت هلاكه في غدها أو في مسائها، ثم رأى عمرو في منامه سيل العرم، وقيل له: إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعف النخل فنظر إليها فوجد الحصباء قد ظهرت فيها فعلم أنه واقع وأن بلادهم ستخرب فكتم ذلك وأجمع على بيع كل شيء له بأرض مأرب، وأن يخرج منها هو وولده ثم خشي أن تنكر الناس عليه ذلك فأمر أحد أولاده إذا دعاه لما يدعوه إليه أن يتأبى عليه وأن يفعل ذلك به في الملأ من الناس، وإذا لطمه يرفع هو يده ويلطمه ثم صنع عمرو طعاما وبعث إلى أهل مأرب أن عمرا قد صنع طعاما يوم مجد وذكر، فأحضروا طعامه، فلما جلس الناس للطعام جلس عنده ابنه الذي أمره بما قد أمره فجعل يأمره فيتأبى عليه فرفع عمرو يده فلطمه فلطمه ابنه وكان اسمه مالكا ، فصاح عمرو وا ذلاه يوم فخر عمرو وبهجته صبي يضرب وجهه، وحلف ليقتلنه فلم يزالوا يرغبون إليه حتى ترك، وقال: والله لا أقيم بموضع صنع فيه بي هذا ولأبيعن أموالي حتى لا يرث بعدي منها شيئا، فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غيظ عمرو واشتروا منه أمواله قبل أن يرضى، فابتاع الناس منه كل ماله بأرض مأرب وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن سيل العرم فقام ناس من الأزد فباعوا أموالهم فلما أكثروا البيع استنكر الناس ذلك فأمسكوا عن الشراء، فلما اجتمعت إلى عمرو أمواله أخبر الناس بشأن السيل وخرج فخرج لخروجه منها بشر كثير، فنزلوا أرض عك فحاربتهم عك فارتحلوا عن بلادهم ثم اصطلحوا وبقوا بها حتى مات عمرو وتفرقوا في البلاد، فمنهم من سار إلى الشام وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر ، ومنهم من سار إلى يثرب وهم أبناء قبيلة الأوس والخزرج وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ، وسارت أزد السراة إلى السراة وأزد عمان [ ص: 133 ] إلى عمان، وسار مالك بن فهم إلى العراق ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيئ فنزلت أجأ وسلمى، ونزلت أبناء ربيعة بن حارثة بن عامر بن عمرو تهامة، وسموا خزاعة لانخزاعهم من إخوانهم ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه، وفي ذلك يقول ميمون بن قيس الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذاك للمؤتسي أسوة     ومأرب عفا عليها العرم
                                                                                                                                                                                                                                      رخام بنته لهم حمير     إذا جاء مواره لم يرم
                                                                                                                                                                                                                                      فأروى الزروع وأعنابها     على سعة ماؤهم إذ قسم
                                                                                                                                                                                                                                      فصاروا أيادي ما يقدرو     ن منه على شرب طفل فطم



                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الميداني عن الكلبي عن أبي صالح أن طريفة الكاهنة قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة فأقاموا بها وبما حولها فأصابتهم الحمى وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم: أصابني الذي تشكون، وهو مفرق بيننا، قالوا فماذا تأمرين، قالت: من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد، فكانت أزد عمان، ثم قالت: من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أزمات الدهر فعليه بالأراك من بطن مر فكانت خزاعة، ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج، ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير والملك والتأسير ويلبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها آل جفنة من غسان، ثم قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأرزاق والدم المهراق فليلحق بأرض العراق، فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة وآل محرق، والحق أن تمزيقهم وتفريقهم في البلاد كان بعد إرسال السيل، نعم لا يبعد خروج بعضهم قبيله حين استشعروا وقوعه، وفي المثل: ذهبوا أيدي سبأ، ويقال تفرقوا أيدي سبأ، ويروى أيادي وهو بمعنى الأولاد لأنهم أعضاد الرجل لتقويه بهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المفصل أن الأيدي الأنفس كناية أو مجازا قال في الكشف: وهو حسن، ونصبه على الحالية بتقدير (مثل) لاقتضاء المعنى إياه مع عدم تعرفه بالإضافة، وقيل: إنه بمعنى البلاد أو الطرق من قولهم خذ يد البحر أي طريقه وجانبه، أي تفرقوا في طرق شتى، والظاهر أنه على هذا منصوب على الظرفية بدون تقدير (في) كما أشار إليه الفاضل اليمني، وربما يظن أن الأيدي أو الأيادي بمعنى النعم وليس كذلك، ويقال في الشخص إذا كان مشتت الهم موزع الخاطر كان أيادي سبأ، وعليه قول كثير عزة :


                                                                                                                                                                                                                                      أيادي سبأ يا عز ما كنت بعدكم     فلم يحل بالعينين بعدك منظر



                                                                                                                                                                                                                                      إن في ذلك أي فيما ذكر من قصتهم لآيات عظيمة لكل صبار أي شأنه الصبر على الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاق الطاعات، وقيل: شأنه الصبر على النعم بأن لا يبطر ولا يطغى وليس بذاك شكور شأنه الشكر على النعم، وتخصيص هؤلاء بذلك لأنهم المنتفعون بها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية