الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 245 ] سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم - { كل مولود يولد على الفطرة } ما معناه ؟ : أراد فطرة الخلق أم فطرة الإسلام ؟ . وفي قوله : { الشقي من شقي في بطن أمه } الحديث . هل ذلك خاص أو عام . وفي البهائم والوحوش هل يحييها الله يوم القيامة أم لا ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله . أما قوله صلى الله عليه وسلم { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه } فالصواب أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها وهي فطرة الإسلام وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال : { ألست بربكم قالوا بلى } .

                وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة . فإن حقيقة " الإسلام " أن يستسلم لله ; لا لغيره وهو معنى لا إله إلا الله وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال : { كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ } بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن وأن العيب حادث طارئ . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن الله : { إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت [ ص: 246 ] عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا } .

                ولهذا ذهب الإمام أحمد رضي الله عنه في المشهور عنه : إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم بإسلامه ; لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة . وقد روي عنه ; وعن ابن المبارك وعنهما : أنهم قالوا " يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة " وهذا القول لا ينافي الأول فإن الطفل يولد سليما وقد علم الله أنه سيكفر فلا بد أن يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب كما تولد البهيمة جمعاء وقد علم الله أنها ستجدع .

                وهذا معنى ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغلام الذي قتله الخضر : طبع يوم طبع كافرا ; ولو ترك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا } يعني طبعه الله في أم الكتاب أي كتبه وأثبته كافرا ; أي أنه إن عاش كفر بالفعل . ولهذا { لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال : الله أعلم بما كانوا عاملين } أي الله يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا . ثم إنه قد جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم ويبعث إليهم رسولا في عرصة القيامة فمن أجابه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار } فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه ويجزيهم على ما ظهر من العلم وهو إيمانهم وكفرهم ; لا على مجرد العلم . [ ص: 247 ]

                وهذا أجود ما قيل في أطفال المشركين وعليه تتنزل جميع الأحاديث . ومثل الفطرة مع الحق : مثل ضوء العين مع الشمس وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس : مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس .

                وكذلك أيضا كل ذي حس سليم يحب الحلو إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرا . ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل فإن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق : الذي هو الإسلام بحيث لو ترك من غير مغير لما كان إلا مسلما . وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع : هي فطرة الله التي فطر الناس عليها .

                وأما الحديث المذكور : فقد صح عن ابن مسعود أنه كان يقول : " الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره " وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - { إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك [ ص: 248 ] ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال : اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . ثم ينفخ فيه الروح } . وهذا عام في كل نفس منفوسة قد علم الله سبحانه - بعلمه الذي هو صفة له - الشقي من عباده والسعيد وكتب سبحانه ذلك في اللوح المحفوظ ويأمر الملك أن يكتب حال كل مولود ما بين خلق جسده ونفخ الروح فيه إلى كتب أخر يكتبها الله ليس هذا موضعها . ومن أنكر العلم القديم في ذلك فهو كافر .

                وأما البهائم فجميعها يحشرها الله سبحانه كما دل عليه الكتاب والسنة . قال تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } وقال تعالى : { وإذا الوحوش حشرت } وقال تعالى : { ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } وحرف ( إذا إنما يكون لما يأتي لا محالة . والأحاديث في ذلك مشهورة فإن الله عز وجل يوم القيامة يحشر البهائم ويقتص لبعضها من بعض ثم يقول لها : كوني ترابا . فتصير ترابا . فيقول الكافر حينئذ { يا ليتني كنت ترابا } ومن قال إنها لا تحيا فهو مخطئ في ذلك أقبح خطأ ; بل هو ضال أو كافر والله أعلم . [ ص: 249 ] وقال أيضا رحمه الله - { كل مولود يولد على الفطرة } فإنه سبحانه فطر القلوب على أن ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه وتنتهي إليه إلا الله ; وإلا فكلما أحبه المحب يجد من نفسه أن قلبه يطلب سواه ويحب أمرا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من أجناسه ; ولهذا قال : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } .




                الخدمات العلمية