الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل ) [ ص: 233 ] ( وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ويأذن للناس بالصلاة فيه ، فإذا صلى فيه واحد زال عند أبي حنيفة عن ملكه ) أما الإفراز فلأنه لا يخلص لله تعالى إلا به ، وأما الصلاة فيه فلأنه لا بد من التسليم عند أبي حنيفة ومحمد ، ويشترط تسليم نوعه ، وذلك في المسجد بالصلاة فيه ، أو لأنه لما تعذر القبض فقام تحقق المقصود مقامه ثم يكتفى بصلاة الواحد فيه في رواية عن أبي حنيفة ، وكذا عن محمد ; لأن فعل الجنس متعذر فيشترط أدناه .

وعن محمد أنه يشترط الصلاة بالجماعة ; لأن المسجد بني لذلك في الغالب ( وقال أبو يوسف : يزول ملكه بقوله جعلته مسجدا ) لأن التسليم عنده ليس بشرط ; لأنه إسقاط لملك العبد فيصير خالصا لله تعالى [ ص: 234 ] بسقوط حق العبد وصار كالإعتاق ، وقد بيناه من قبل .

التالي السابق


( فصل )

لما اختص المسجد بأحكام تخالف أحكام مطلق الوقف عند الثلاثة ، فعند أبي حنيفة لا يشترط في زوال الملك عن المسجد حكم الحاكم ولا الإيصاء به ، ولا يجوز مشاعا عند أبي يوسف ، ولا يشترط التسليم إلى المتولي عند محمد أفرده بفصل على حدته وأخره . هذا ويمكن أن يجعل من ذلك أيضا ما لو اشترى أرضا شراء فاسدا وقبضها ، ثم وقفها على الفقراء جاز وعليه قيمتها للفقراء ، ولو اتخذها مسجدا قال الفقيه أبو جعفر : ذكر محمد في كتاب الشفعة أنه لو اشترى أرضا شراء فاسدا وبناها بناء المسجد جاز عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه قيمتها للبائع ، [ ص: 233 ] وقول أبي يوسف ومحمد ينقض البناء وترد الأرض إلى البائع بفساد البيع .

قال : فاشتراط البناء له دليل على أن لا يكون مسجدا قبل البناء عند الكل . وذكر هلال أنه يصير مسجدا في قول أصحابنا فصار فيه روايتان . قال الفقيه أبو جعفر : في الوقف أيضا روايتان . والفرق على إحداهما عند هذا القائل أن في الوقف حق العباد كالبيع والهبة ، وأما المسجد فخالص حق الله تعالى وما هو خبيث لا يصلح لله تعالى ولهذا قالوا : لو اشترى دارا لها شفيع فجعلها مسجدا كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة ، وكذا إذا كان للبائع حق الاسترداد كان له أن يبطل المسجد ( قوله وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه بطريقه عن ملكه ويأذن للناس في الصلاة فيه ، فإذا صلى فيه واحد زال ملكه عند أبي حنيفة ) ومحمد في رواية عنهما ، وفي رواية أخرى عنهما : لا يزول إلا بصلاة جماعة ، وعند أبي يوسف يزول ملكه بمجرد قوله جعلته مسجدا . أما قولهما فلأن الملك لم يزل بمجرد القول فمشى محمد على أصله في اشتراط التسليم ، لكن لا يتعين المتولي ; لأن تعينه لتحقق التسليم إلى من أخرج إليه وهو الله سبحانه وتعالى ولا يتحقق إلا في ضمن التسليم إلى العبد على ما مر لا كل عبد ، بل الذي تعود منفعته إليه ، غير أن المتولي يقام مقامهم في القبض ، ومقام الواقف في إقبال الغلة لهم لكل وقف في العادة ، فتبين ولم تجر العادة في المسجد بذلك إذ ليس له غلة يستحقها الناس فأقيم حصول المقصود مقام التسليم وهو بالصلاة فيه ، وعلى هذا يخرج عن الملك بصلاة المنفرد ; لأن قبض الجنس متعذر فاكتفى بالواحد . وعلى هذه الرواية اختلفوا لو صلى الواقف بنفسه وحده ، والصحيح أنه لا يكفي ; لأن الصلاة إنما تشترط لأجل القبض للعامة وقبضه من نفسه لا يكفي ، فكذا صلاته . ووجه رواية اشتراط الجماعة أنها المقصود بالمسجد لا مطلق الصلاة ، فإنها تتحقق في غير المسجد فكان تحقق المقصود منه بصلاة الجماعة ، ولهذا يشترط كونها بأذان وإقامة عندهما .

ولو جعل له واحدا مؤذنا وإماما فأذن وأقام وصلى وحده صار مسجدا بالاتفاق ; لأن أداء الصلاة على هذا الوجه كالجماعة ، ولهذا قالوا يكره بعد صلاة المؤذن هذه أن تعاد الجماعة لمن يأتي بعده على هذا الوجه عند البعض . وقولنا لا يتعين المتولي يفيد أنه لو سلمه إلى متول جعله له صح ، وإن لم يصل فيه أحد . وفيه اختلاف المشايخ . والوجه الصحة ; لأن بالتسليم إلى المتولي أيضا يحصل تمام التسليم إليه تعالى لرفع يده عنه .

وجه قول أبي حنيفة في الفرق بين المسجد وغيره في الخروج عن الملك بلا حكم مما سيأتي بأن لفظ الوقف والصدقة في قول الواقف جعلت أرضي صدقة موقوفة [ ص: 234 ] ونحوها لا يوجب الخروج عن الملك ; لأن لفظ الوقف لا ينبئ عنه ، والصدقة ليس معناها إلا التصدق بالغلة وهي معدومة فلا يصح ، بل الوقف ينبئ عن الإبقاء في الملك لتحصل الغلة على ملكه فيتصدق بها فيحتاج إلى حكم الحاكم لإخراجه عن ملكه إلى غير مالك في محل الاجتهاد ، بخلاف قوله جعلته مسجدا فإنه ليس منبئا عن إبقاء الملك ليحتاج إلى القضاء بزواله ، فإذا أذن في الصلاة فيه فصلى كما ذكرنا ، قضى العرف في ذلك بخروجه عنه ، ومقتضى هذا أمران : أحدهما أنه لا يحتاج في جعله مسجدا إلى قوله وقفته ونحوه ، وهو كذلك وبه قال مالك وأحمد ، وقال الشافعي : لا بد من قوله وقفته أو حبسته ونحو ذلك ; لأنه وقف على قربة فكان كالوقف على الفقراء ، ونحن نقول : إن العرف جار بأن الإذن في الصلاة على وجه العموم والتخلية يفيد الوقف على هذه الجهة فكان كالتعبير به ، فكان كمن قدم طعاما إلى ضيفه أو نثر نثارا كان إذنا في أكله والتقاطه ، بخلاف الوقف على الفقراء لم تجر عادة فيه بمجرد التخلية والإذن بالاستغلال ، ولو جرت به عادة في العرف اكتفينا بذلك كمسألتنا . والثاني أنه لو قال وقفته مسجدا ، ولم يأذن في الصلاة فيه ، ولم يصل فيه أحد لا يصير مسجدا بلا حكم وهو بعيد . وأبو يوسف رحمه الله مر على أصله من زوال الملك بمجرد القول أذن في الصلاة أو لم يأذن ، ويصير مسجدا بلا حكم ; لأنه إسقاط كالإعتاق ، وبه قالت الأئمة الثلاثة . وينبغي أن يكون قول أبي يوسف إن كلا من مجرد القول والإذن كما قالا موجب لزوال الملك وصيرورته مسجدا لما ذكرنا من العرف




الخدمات العلمية