الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم

لما حذر من النكث ورغب في الوفاء أتبع ذلك بذكر التخلف عن الانضمام إلى جيش النبيء - صلى الله عليه وسلم - حين الخروج إلى عمرة الحديبية وهو ما فعله الأعراب الذين كانوا نازلين حول المدينة وهم ست قبائل : غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، والديل ، بعد أن بايعوه على الخروج معه فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 161 ] لما أراد المسير إلى العمرة استنفر من حول المدينة منهم ليخرجوا معه فيرهبه أهل مكة فلا يصدوه عن عمرته فتثاقل أكثرهم عن الخروج معه . وكان من أهل البيعة زيد بن خالد الجهني من جهينة وخرج مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - من أسلم مائة رجل منهم مرداس بن مالك الأسلمي ، والد عباس الشاعر ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وزاهر بن الأسود ، وأهبان - بضم الهمزة - بن أوس ، وسلمة بن الأكوع الأسلمي ، ومن غفار خفاف - بضم الخاء المعجمة - بن أيماء بفتح الهمزة بعدها تحتية ساكنة ، ومن مزينة عائذ بن عمرو .

وتخلف عن الخروج معه معظمهم وكانوا يومئذ لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ولكنهم لم يكونوا منافقين ، وأعدوا للمعذرة بعد رجوع النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنهم شغلتهم أموالهم وأهلوهم ، فأخبر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما بيتوه في قلوبهم وفضح أمرهم من قبل أن يعتذروا . وهذه من معجزات القرآن بالأخبار التي قبل وقوعه .

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لمناسبة ذكر الإيفاء والنكث ، فكمل بذكر من تخلفوا عن الداعي للعهد .

والمعنى : أنهم يقولون ذلك عند مرجع النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة معتذرين كاذبين في اعتذارهم .

و المخلفون بفتح اللام هم الذين تخلفوا .

وأطلق عليهم " المخلفون " أي غيرهم خلفهم وراءه ، أي تركهم خلفه ، وليس ذلك بمقتض أنهم مأذون لهم بل المخلف هو المتروك مطلقا . يقال : خلفنا فلانا ، إذا مروا به وتركوه لأنهم اعتذروا من قبل خروج النبيء - صلى الله عليه وسلم - فعذرهم بخلاف الأعراب فإنهم تخلف أكثرهم بعد أن استنفروا ولم يعتذروا حينئذ .

والأموال : الإبل .

وأهلون : جمع أهل على غير قياس لأنه غير مستوف لشروط الجمع بالواو والنون أو الياء والنون ، فعد مما ألحق بجمع المذكر السالم .

ومعنى فاستغفر لنا : اسأل لنا المغفرة من الله إذ كانوا مؤمنين فهو طلب [ ص: 162 ] حقيقي لأنهم كانوا مؤمنين ولكنهم ظنوا أن استغفار النبيء - صلى الله عليه وسلم - لهم يمحو ما أضمروه من النكث وذهلوا عن علم الله بما أضمروه كدأب أهل الجهالة فقد قتل اليهود زكريا مخافة أن تصدر منه دعوة عليهم حين قتلوا ابنه يحيى ولذلك عقب قولهم هنا بقوله - تعالى - بل كان الله بما تعملون خبيرا الآية .

وجملة يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم في موضع الحال .

ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة سيقول لك المخلفون .

والمعنى : أنهم كاذبون فيما زعموه من الاعتذار ، وإنما كان تخلفهم لظنهم أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - يقصد قتال أهل مكة أو أن أهل مكة مقاتلوه لا محالة وأن الجيش الذين كانوا مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيعون أن يغلبوا أهل مكة ، فقد روي أنهم قالوا : يذهب إلى قوم غزوه في عقر داره بالمدينة يعنون غزوة الأحزاب وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة وذلك من ضعف يقينهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية