الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر - سبحانه - ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق؛ أتبعه [ ص: 21 ] ما كانوا عليه من الوحدة في جنس الأصل؛ وأصله التراب المسلول منه الماء؛ بعد تخميره فيه؛ وإن اختلفت أصنافه؛ فقال - مبينا لبعض آيات الأنفس؛ عاطفا على ما عطف عليه والله الذي أرسل الرياح الذي هو من آيات الآفاق؛ منبها على أنه قادر على التمييز بعد شديد المزج؛ وأنه قدر كل شيء؛ من الأرزاق؛ والآجال؛ والمصائب؛ والأفراح؛ فلا ثمرة للمكر إلا ما يلحق الماكر من الحرج؛ والعقوبة من الله؛ والضرر -: والله ؛ أي: الذي له جميع صفات الكمال; ولما لم يدع حاجة إلى الحصر؛ قال: خلقكم من تراب ؛ أي: مثلي؛ وإن اختلفت أصنافه؛ بتكوين أبيكم منه؛ فمزجه مزجا لا يمكن لغيره تمييزه؛ ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلا؛ ورأسا؛ وإليه الإشارة بقوله: ثم ؛ أي: بعد ذلك من الزمان؛ والرتبة؛ خلقكم من نطفة ؛ أي: جعلها أصلا ثانيا مثليا من ذلك الأصل الترابي؛ أشد امتزاجا منه؛ ثم بعد إنهاء التدبير زمانا؛ ورتبة؛ إلى النطفة؛ التي لا مناسبة بينها وبين التراب؛ دلالة على كمال القدرة؛ والفعل بالاختيار؛ ثم جعلكم أزواجا ؛ بين ذكور؛ وإناث؛ دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار؛ وكذب أهل [ ص: 22 ] الطبائع؛ وعلى البعث؛ بتمييز ما يصلح من التراب للذكورة؛ والأنوثة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الحمل أيضا مكذبا لأهل الطبائع؛ بأنه لا يكون من كل جماع؛ أشار إليه بقوله - مؤكدا؛ ردا عليهم؛ إعلاما بأن ذلك إنما هو بقدرته -: وما تحمل ؛ أي: في البطن؛ بالحبل؛ من أنثى ؛ دالا بالجار على كمال الاستغراق؛ ولما كان الوضع أيضا كذلك؛ بأنه لا يتم كلما حمل به؛ قال: ولا تضع ؛ أي: حملا؛ إلا ؛ مصحوبا؛ بعلمه ؛ في وقته؛ ونوعه؛ وشكله؛ وغير ذلك من شأنه؛ مختصا بذلك كله؛ حتى عن أمه التي هي أقرب إليه؛ فلا يكون إلا بقدرته؛ فما شاء أتمه؛ وما شاء أخرجه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ما بعد الولادة أيضا دالا على الاختيار؛ لتفاضلهم في الأعمار؛ مع تماثلهم في الحقيقة؛ دل عليه بقوله - دالا بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه - سبحانه -؛ وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد -: وما يعمر من معمر ؛ أي: يزاد في عمر من طال عمره؛ أي صار إلى طول العمر بالفعل حسا؛ قال قتادة : "ستين"؛ أو معنى؛ بزيادة الفاعل المختار؛ زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه؛ ولا ينقص من عمره ؛ أي: المعمر؛ بالقوة؛ وهو الذي كان قابلا في العادة لطول العمر؛ فلم يعمر بنقص الفاعل المختار؛ نقصا لولاه لطال عمره؛ فالمعمر المذكور؛ المراد به الفعل؛ [ ص: 23 ] والذي عاد إليه الضمير؛ المعمر بالقوة؛ فهو من بديع الاستخدام؛ ولو كان التعبير بـ "أحد"؛ لما صح هذا المعنى؛ وقراءة يعقوب - بخلاف - عن رويس؛ بفتح الياء؛ وضم القاف؛ بالبناء للفاعل؛ تشير إلى أن قصر العمر أكثر.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان في سياق العلم؛ وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب؛ قال: إلا في كتاب ؛ مكتوب فيه: " عمر فلان كذا؛ وعمر فلان كذا؛ وكذا عمر فلان كذا إن عمل كذا؛ وعمره كذا - أزيد أو أنقص - إن لم يعمله" .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان ذلك أمرا لا يحيط به العد؛ ولا يحصره الحد؛ فكان في عداد ما ينكره الجهلة؛ قال - مؤكدا لسهولته -: إن ذلك ؛ أي: الأمر العظيم؛ من كتب الآجال كلها؛ وتقديرها؛ والإحاطة بها على التفصيل؛ على الله ؛ أي: الذي له جميع العزة؛ فهو يغلب كل ما يريده؛ خاصة؛ يسير

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية