الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                اللاحقة الثانية : التمتع ، وهي مأخوذة من المتاع ، وهو ما ينتفع به كيف كان لقول الشاعر :


                                                                                                                وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق

                                                                                                                فجعل وقوف الإنسان بالقبر متاعا ، والتمتع فيه إسقاط أحد السفرين ، فإن شأن كل واحد من النسكين أن يحرم به من الميقات ، وأن يرحل إلى قطره فقد سقط أحدهما ، فجعل الشرع الدم جابرا لما فاته ، ولذلك لم يجب على المكي ; لأنه ليس من شأنه الميقات ولا السفر ، وقال عطاء في ( الواضحة ) : إنما سميت متعة ; لأنهم يتمتعون بين العمرة والحج بالنساء والطيب ، ويرد على الأول أنه لو تحلل من عمرته قبل أشهر الحج فإنه مسقط لأحد السفرين وليس بتمتع ، وعلى الثاني أن المكي كذلك وليس بمتمتع ، قال سند : ولوجوب الدم فيه شروط أن يكون غير حاضري المسجد الحرام ، وأن تكون العمرة والحج في سفر واحد وعام [ ص: 293 ] واحد في أشهر الحج ، وتقدم العمرة على الحج ، والفراغ منها قبل الدخول فيه ، وقاله الأئمة ، وزاد صاحب ( الجواهر ) : أن يقع النسكان عن شخص واحد ، وزاد الشافعية : النية والإحرام بالعمرة من الحل ، ويدل على الأول ما تقدم في القران ، وعلى الثاني والثالث : قوله تعالى : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ) [ البقرة : 196 ] وحرف ( إلى ) للغاية ، فجعل آخر العمرة متصلا بالحج ، فإذا رجع إلى بلده أو مثله في البعد فقد فرق بينهما ، وقال المغيرة : بل إلى موضع تقصر فيه الصلاة ، وقال ( ح ) : بل نفس بلده ، فإنه ما لم يلم بأهله فإنه مترفه بسفره الأول عن سفرتين ، وجوابه : أن الترفه إنما يحصل بقلة السير والترحال ، ولا فرق بين بلده وما يساويه في ذلك ، وقال ( ش ) : بل الرجوع إلى ميقاته فيحرم منه بالحج ; لأن ما بعد عن الميقات لا يجب الإحرام منه ، فلا معنى لاعتبار الخروج إليه ، أما الميقات : فالخروج إليه معتبر شرعا ، والنص دل على الدم في حق من وصل العمرة بالحج في سفر ، وهذا لم يصل فلا يجب عليه دم ، وجوابه : ليس المراد مجرد الاتصال بل الانتفاع بما سقط عنه من السفر ، وذلك مقتضى لفظ التمتع فيكون السبب هو الانتفاع بالسقوط ، وهذا قد انتفع فيجب الدم ، ويتأكد ما ذكرته بأنه محكي عن ابن عمر من غير مخالف ، وروي عن مالك : إسقاط الدم عنه برجوعه إلى غير أفقه إلا أن يكون غير الحجاز لوجوب السفر ، وقال ابن أبي زيد : إن كان أفقه لا يمكنه الرجوع إليه والعود منه إلى الحج ؛ يكفي دونه مما يخاف فيه الفوات ، ولو أفسد عمرته في أشهر الحج فحل منها ثم حج من عامه قبل قضاء عمرته فهو متمتع وعليه قضاء العمرة ، قال صاحب ( الاستذكار ) : في التمتع أربعة مذاهب : أحدها : أنه ما تقدم ، وعليه جمهور الفقهاء وأنه المراد بالآية ، والثاني : أنه القران التمتع فيه بسقوط [ ص: 294 ] العمل ، والثالث : أنه فسخ الحج في العمرة لتمتعه بإسقاط بقية أعمال الحج ، والرابع : أنه الإحصار بالعدو ، وفسر ابن الزبير الآية به .

                                                                                                                ولنمهد الفروع على الشروط فنقول :

                                                                                                                الشرط الأول : قال في ( الكتاب ) : إذا كان له أهل بمكة وأهل ببعض الآفاق فقدم معتمرا في أشهر الحج فهو من مشكلات الأمور ، والهدي أحوط ، وفي ( الجواهر ) قال أشهب : إن كان أكثر إقامته بمكة ويأتي غيرها منتابا فلا هدي عليه ، وإن كان يأتي غيرها للسكنى فعليه الهدي ، قال اللخمي : لا يختلف في ذلك ، وإنما تكلم مالك على مساواة إقامته في الموضعين ، والمراعى في حضور المسجد وقت فعل التسكين والإهلال بهما ، وفي ( الكتاب ) : من دخل مكة في أشهر الحج بعمرة يريد سكناها ، وحج من عامه فعليه دم التمتع ; لأنه لم يتصف بسكناها ، وإنما عزم ، وقد يبدو له ، والعزم على الشيء لا يقوم مقامه ، وقال أشهب في ( الموازية ) : إن دخل بالعمرة قبل أشهر الحج فهو متمتع وإلا فلا .

                                                                                                                الشرط الثاني : اجتماع العمرة والحج في أشهره ، وفي ( الكتاب ) : إذا تحلل من عمرته قبل أشهر الحج ثم اعتمر أخرى فيها وتحلل منها ثم حج من عامه فعليه دم المتعة ; لأنه أسقط أحد السفرين باعتبار العمرة الثانية ، وإذا فعل بعض العمرة في رمضان وبعضها في شوال ثم حج فعليه الدم ، ولو لم يبق لشوال إلا الحلاق لم يكن متمتعا ، وقال ( ح ) : إذا أتى بأكثر أفعال العمرة في أشهر الحج كان متمتعا ، وقال ( ش ) وابن حنبل : إذا لم يقع إحرام العمرة في شوال فليس بتمتع . لنا : أن العمرة إنما تعتبر بكمالها ، وقد وقع في أشهر الحج .

                                                                                                                الشرط الثالث : أن لا يرجع إلى وطنه ولا إلى مثله في المسافة ، وفي ( الكتاب ) : إذا تحلل من عمرته وهو من أهل الشام فرجع إلى المدينة فعليه دم [ ص: 295 ] المتعة إلا أن يرجع إلى مثل أفقه ، وقد تقدم الكلام على بقية الشروط الستة ، وأما السابع الذي نقله في ( الجواهر ) : فلم يجد فيه خلافا ، وقال سند في ( الموازية ) : متمتع وإن كان التمتع نسكا عن شخصين ولم يجد هو أيضا خلافا ، أجراه اللخمي على التكفير قبل الحنث .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية