الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين

                          هذه الآيات وما بعدها في قصة أحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام ، فهي متصلة بقوله - عز وجل - : وإذ غدوت من أهلك إلخ . الآيات التي تقدمت ، وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة . وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال : " إن الله - تعالى - لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة [ ص: 114 ] من المعصية ، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين " وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة .

                          ذكر في الآيات السابقة خبر وقعة " أحد " وأهم ما وقع فيها مع التذكير بوقعة " بدر " وما بشروا به في ذلك . وفي هذه الآيات وما بعدها يذكر السنن والحكم في ذلك . ويعلم المؤمنين من علم الاجتماع ما لم يكونوا يعلمون ; ولذلك افتتحها بقوله الحكيم : قد خلت من قبلكم سنن .

                          قال الأستاذ الإمام : إن بعض المفسرين يجعل الآيتين الأوليين من هذه الآيات تمهيدا لما بعدها من النهي عن الوهن والحزن وما يتبع ذلك ، وعلى هذا جرى ( الجلال ) كأنه يقول : إن هذا الذي وقع لا يصح أن يضعف عزائمكم فإن السنن التي قد خلت من قبلكم تبين لكم كيف كانت مصارعة الحق للباطل ، وكيف ابتلي أهل الحق أحيانا بالخوف والجوع والانكسار في الحرب ثم كانت العاقبة لهم ، فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين للرسل المقاومين لهم ، فإنهم كانوا هم المخذولين المغلوبين ، وكان جند الله هم المنصورين الغالبين ، وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا لما أصابكم في أحد .

                          ثم قال ما مثاله مع إيضاح وزيادة : هذا رأي ضعيف فإن ذكر السنن بعد آيات متعددة في موضوعات مختلفة تفيد معاني كثيرة ، فإن الله - تعالى - نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين بدت لهم بغضاؤهم ، وبين هو لهم مجامع خبثهم وكيدهم ، ثم ذكر النبي والمؤمنين بوقعة " أحد " وما كان فيها بالإجمال ، وذكرهم بنصره لهم ببدر ، ثم ذكر المتقين وأوصافهم وما وعدوا به ، ثم ذكر بعد ذلك كله مضي السنن في الأمم وأنه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ، فذكر السنن بعد ذلك كله يفيد معاني كثيرة تحتاج إلى شرح طويل جدا لا معنى واحدا كما قيل . وإن في القرآن من إفادة المباني القليلة للمعاني الكثيرة بمعونة السياق والأسلوب ما لا يخطر في بال أحد من كتاب البشر وعلمائهم ، ومثل هذا مما تجب العناية ببيانه ، يقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز : إن كون القرآن معجزا ببلاغته يوجب علينا أن نجعل أسلوبه الذي كان معجزا به فنا ليبقى دالا على وجه إعجازه . وكذلك أقول : إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه ، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملا بإرشاده ، كالتوحيد والأصول والفقه . والعلم بسنن الله - تعالى - من أهم العلوم وأنفعها ، والقرآن سجل [ ص: 115 ] عليه في مواضع كثيرة ، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها ، ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد ، وفرعت منها الفروع والمسائل ، ( قال ) وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها . يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله - تعالى - ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها ; لذلك قال : وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل أنفع من العلم النظري المحض وكذلك كانت علومهم كلها ، ولما اختلفت حالة العصر اختلافا احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما كانت محتاجة أيضا إلى تدوين هذا العلم ، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية أو علم الاجتماع أو علم السياسة الدينية .

                          سم بما شئت فلا حرج في التسمية .

                          ثم قال : ومعنى الجملة : انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين ; فإذا أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم ، وإن سلكتم سبل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم . وفي هذا تذكير لمن خالف أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد ، ففي الآية مجاري أمن ومجاري خوف ، فهو على بشارته لهم فيها بالنصر وهلاك عدوهم ينذرهم عاقبة الميل عن سننه ، ويبين لهم أنهم إذا ساروا في طريق الضالين من قبلهم فإنهم ينتهون إلى مثل ما انتهوا إليه ، فالآية خبر وتشريع ، وفي طيها وعد ووعيد .

                          وأقول : السنن جمع سنة وهي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع ، قيل إنها من قولهم : سن الماء إذا والى صبه ، فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب ، فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد . ومعنى ( خلت ) : مضت وسلفت .

                          أي إن أمر البشر في اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة وغير ذلك قد جرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضاها النظام العام وليس الأمر أنفا كما يزعم القدرية ، ولا تحكما واستبدادا كما يتوهم الحشوية .

                          جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب العزيز ، كقوله في سياق أحكام القتال وما كان في وقعة بدر : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين [ 8 : 38 ] وقوله في سياق أحوال الأمم مع أنبيائهم : وقد خلت سنة الأولين [ 15 : 13 ] وقوله في سياق دعوة الإسلام : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا [ 18 : 55 ] وقوله [ ص: 116 ] في مثل هذا السياق : فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 : 43 ] وصرح في سور أخرى كما صرح هنا بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول كسورة بني إسرائيل وسورة الأحزاب وسورة الفتح .

                          هذا إرشاد إلهي ، لم يعهد في كتاب سماوي ، ولعله أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي ، فلم يرد إلا في القرآن ، الذي ختم الله به الأديان .

                          كان المليون من جميع الأجيال يعتقدون أن أفعال الله - تعالى - في خلقه تشبه أفعال الحاكم المستبد في حكومته ، المطلق في سلطته ، فهو يحابي بعض الناس فيتجاوز لهم عما يعاقب لأجله غيرهم ، ويثيبهم على العمل الذي لا يقبله من سواهم ، لمجرد دخولهم في عنوان معين ، وانتمائهم إلى نبي مرسل ، وينتقم من بعض الناس لأنهم لم يطلق عليهم ذلك العنوان ، أو لم يتفق لهم الانتماء إلى ذلك الإنسان .

                          هذا ما كانوا يظنون في دينهم ويسندونه إلى مشيئة الله المطلقة ، من غير تفكير في حكمته البالغة ، وتطبيقها على سننه العادلة ، فإن نبههم منبه إلى ما يصيبهم بل ما أصاب أنبياءهم من البلاء ، قالوا إنه - تعالى - يفعل ما يشاء ، وذلك رفع درجات أو تكفير للسيئات وأشباه هذا الكلام الذي يشتبه عليهم حقه بباطله ، ويلتبس عليهم حاليه بعاطله ، وقد كان وما زال علة غرور أصحابه بدينهم ، واحتقارهم لكل ما عليه غيرهم ، فجاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله - تعالى - في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة ، فمن سار على سنته في الحرب - مثلا - ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا أو وثنيا ، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا ، وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشجوا رأسه ، وكسروا سنه ، وأردوه في تلك الحفرة ; كما بينا ذلك في تفسير الآيات السابقة ، وسيأتي بسطه في الآيات اللاحقة ، ولكن المؤمنين الصادقين أجدر الناس بمعرفة سنن الله - تعالى - في الأمم ، وأحق الناس بالسير على طريقها بين الأمم ; لذلك لم يلبث أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم ، وتراجعوا للدفاع عن نبيهم ، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون ، ولم ينالوا منهم ما كانوا يقصدون .

                          وكأن بعض المسلمين لم يكونوا قد حفظوا ما ورد في السور المكية من إثبات سنن الله في خلقه وكونها لا تتبدل ولا تتحول كسورة الحجر وبني إسرائيل والكهف والملائكة أو فاطر وهي التي ذكرنا بعضها آنفا وأشرنا إلى بعض - أو حفظوا ولم يفقهوه ولم يظهر لهم انطباقه على ما وقع لهم في أحد كما يعلم من قوله الآتي : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [ 3 : 165 ] لذلك صرح لهم في بدء الآيات التي تبين لهم سننه أن له [ ص: 117 ] سننا عامة جرى عليها نظام الأمم من قبل . وأن ما وقع لهم مما يقص حكمته عليهم هو مطابق لتلك السنن التي لا تتحول ولا تتبدل .

                          ولما كان التعليم بالقول وحده من غير تطبيق على الواقع مما ينسى أو يقل الاعتبار به نبههم على هذا التطبيق في أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى فقال : فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين قال الأستاذ الإمام : أي إن المصارعة بين الحق والباطل قد وقعت من الأمم الماضية ، وكان أهل الحق يغلبون أهل الباطل وينصرون عليهم بالصبر والتقوى ( أي اتقاء ما يجب اتقاؤه في الحرب بحسب الزمان والمكان ودرجة استعداد الأعداء ) وكان ذلك يجري بأسباب مطردة وعلى طرائق مستقيمة ، يعلم منها أن صاحب الحق إذا حافظ عليه ينصر ويرث الأرض ، وإن من ينحرف عنه ويعيث في الأرض فسادا يخذل وتكون عاقبته الدمار ، فسيروا في الأرض واستقروا ما حل بالأمم ليحصل لكم العلم الصحيح التفصيلي بذلك هو الذي يحصل به اليقين ويترتب عليه العمل ، وقال بعض المفسرين : أي إن لم تصدقوا فسيروا . وهذا قول باطل .

                          قال : والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي . نعم : إن النظر في التاريخ الذي يشرح ما عرفه الذين ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين خلوا يعطي الإنسان من المعرفة ما يهديه إلى تلك السنن ويفيده عظة واعتبارا ولكن دون اعتبار الذي يسير في الأرض بنفسه ويرى الآثار بعينه ولذلك أمر بالسير والنظر ثم أتبع ذلك بقوله :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية