الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 121 ] فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين ; فإن رسالة الله : إما إخبار وإما إنشاء .

                فالإخبار عن نفسه وعن خلقه : مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد . والإنشاء الأمر والنهي والإباحة . وهذا كما ذكر في أن : { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن ; لتضمنها ثلث التوحيد ; إذ هو قصص ; وتوحيد ; وأمر .

                وقوله سبحانه في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } هو بيان لكمال رسالته ; فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ونهى عن كل منكر ; وأحل كل طيب وحرم كل خبيث ; ولهذا روي عنه أنه قال : { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } . وقال في الحديث المتفق عليه : { مثلي ومثل الأنبياء كمثل [ ص: 122 ] رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة ; فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها ; ويقولون : لولا موضع اللبنة فأنا تلك اللبنة } . فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث . وأما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات كما قال : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } . وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث كما قال تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } .

                وتحريم الخبائث يندرج في معنى " النهي عن المنكر " كما أن إحلال الطيبات يندرج في " الأمر بالمعروف " لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول ; الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف وقد قال الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا .

                وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } . وقال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } ولهذا قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة . فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس : فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم ; لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق .

                وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ; ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك . بل منهم من لم يجاهد والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم ; لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال موسى لقومه : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } { قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } إلى قوله : { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } . وقال تعالى : { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } " فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك ; ولهذا لم تحل لهم الغنائم ; ولم يكونوا يطئون بملك اليمين .

                ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنو إسرائيل ; كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما { قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال : عرضت علي الأمم ; فجعل يمر النبي ومعه الرجل ; والنبي معه الرجلان ; والنبي معه الرهط ; والنبي ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي ; فقيل : هذا موسى وقومه . ثم قيل لي : انظر فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل لي : انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل : هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك وكنا آمنا بالله ورسوله ; ولكن هؤلاء أبناؤنا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هم الذين لا يتطيرون والا يكتوون ; ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون : فقام عكاشة بن محصن فقال : [ ص: 125 ] أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال : نعم فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؟ فقال : سبقك بها عكاشة .

                } ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة ; لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ; فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب ; أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى ; أو خلقه بباطل : لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف : من الكلم الطيب والعمل الصالح ; بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف وما لم تنه عنه فليس من المنكر . وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر : فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أو تنهى كلها عن معروف ؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } .

                وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم ; إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة : فكيف يشترط فيما هو من توابعها ؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم . ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه : [ ص: 126 ] كان التفريط منهم لا منه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية