الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب أول وقت العصر وآخره في الاختيار والضرورة قد سبق في حديث ابن عباس وجابر في باب وقت الظهر .

                                                                                                                                            425 - ( وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس } رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود ، وفي رواية لمسلم { ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول وفيه ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول } ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( ثور الشفق ) هو بالثاء المثلثة أي ثورانه وانتشاره ومعظمه .

                                                                                                                                            وفي القاموس أنه حمرة الشفق الثائر فيه . قوله : ( قرن الشمس ) هو ناحيتها أو أعلاها أو أول شعاعها ، قاله في القاموس . قوله : ( ويسقط قرنها الأول ) المراد به الناحية ، كما قاله النووي . والحديث فيه ذكر أوقات الصلوات الخمس ، وقد تقدم الكلام في الظهر ، وسيأتي الكلام على وقت المغرب والعشاء والفجر كل في بابه . وأما وقت العصر فالحديث يدل على امتداد وقته إلى اصفرار الشمس ، كما في الرواية الأولى من حديث الباب ، وإلى سقوط قرنها أي غروبه ، كما في الرواية الثانية منه . وحديث : { من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدرك العصر } يدل على أن إدراك بعضها في الوقت مجزئ ، وإلى هذا ذهب الجمهور ، وقال أبو حنيفة : آخره الاصفرار ، وقال الإصطخري : آخره المثلان ، وبعدها قضاء

                                                                                                                                            والأحاديث ترد عليهم ، ولكنه استدل الإصطخري بحديث جبريل السابق ، وفيه : { أنه صلى العصر اليوم الأول عند مصير ظل الشيء مثله ، واليوم الثاني [ ص: 379 ] عند مصير ظل الشيء مثليه } وقال بعد ذلك : { الوقت ما بين هذين الوقتين } وقد أجيب عن ذلك بحمل حديث جبريل على بيان وقت الاختيار ، لا لاستيعاب وقت الاضطرار والجواز ، وهذا الحمل لا بد منه للجمع بين الأحاديث ، وهو أولى من قول من قال : إن هذه الأحاديث ناسخة لحديث جبريل ; لأن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع ، وكذلك لا يصار إلى ترجيح . ويؤيد هذا الجمع حديث : " تلك صلاة المنافق " . وسيأتي بعد هذا الحديث .

                                                                                                                                            فمن كان معذورا كان الوقت في حقه ممتدا إلى الغروب ، ومن كان غير معذور كان الوقت له إلى المثلين ، وما دامت الشمس بيضاء نقية ، فإن أخرها إلى الاصفرار وما بعده كانت صلاته صلاة المنافق المذكورة في الحديث ، وأما أول وقت العصر ، فمذهب العترة والجمهور أنه مصير ظل الشيء مثله كما تقدم في حديث جبريل ، وقال الشافعي : الزيادة على المثل . وقال أبو حنيفة : المثلان ، وهو فاسد ترده الأحاديث الصحيحة . قال النووي في شرح مسلم : قال أصحابنا : للعصر خمسة أوقات : وقت فضيلة ، واختيار ، وجواز بلا كراهة ، وجواز مع كراهة ، ووقت عذر ; فأما وقت الفضيلة فأول وقتها . ووقت الاختيار يمتد إلى أن يصير ظل الشيء مثليه ، ووقت الجواز إلى الاصفرار ، ووقت الجواز مع الكراهة حال الاصفرار إلى الغروب .

                                                                                                                                            ووقت العذر وهو وقت الظهر في حق من يجمع بين الظهر والعصر لسفر أو مطر ، ويكون العصر في هذه الأوقات الخمسة أداء ، فإذا فاتت كلها بغروب الشمس ، صارت قضاء انتهى . قال المصنف رحمه الله: وفيه دليل على أن للمغرب وقتين ، وأن الشفق : الحمرة ، وأن وقت الظهر يعاقبه وقت العصر ، وأن تأخير العشاء إلى نصف الليل جائز انتهى - قوله وفيه دليل على أن للمغرب وقتين ، استدل على ذلك بقوله في الحديث : " ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق " . قال النووي في شرح مسلم : وذهب المحققون من أصحابنا إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها ما لم يغب الشفق ، وأنه يجوز ابتداؤها في كل وقت من ذلك ، ولا يأثم بتأخيرها عن أول الوقت ، وهذا هو الصحيح أو الصواب الذي لا يجوز غيره .

                                                                                                                                            والجواب عن حديث جبريل حين صلى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه . أحدهما : أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ، ولم يستوعب وقت الجواز ، وهذا جار في كل الصلوات سوى الظهر . والثاني : أنه متقدم في أول الأمر بمكة ، وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق ، متأخرة في آخر الأمر بالمدينة ، فوجب اعتمادها . والثالث : أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل ، فوجب تقديمها انتهى . وقوله : وإن الشفق : الحمرة . قد أخرج ابن عساكر في غرائب مالك والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : { الشفق : الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة } . ولكنه [ ص: 380 ] صحح البيهقي وقفه ، وقد ذكر نحوه الحاكم ، وسيذكره المصنف في باب : وقت صلاة العشاء .

                                                                                                                                            وقوله : وإن تأخير العشاء إلى نصف الليل . . . إلخ ، سيأتي تحقيق ذلك في باب : وقت صلاة العشاء .

                                                                                                                                            426 - ( وعن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا } . رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه ) . الحديث رواه أبو داود بتكرير قوله : " تلك صلاة المنافق " . قوله : ( بين قرني الشيطان ) اختلفوا فيه ، فقيل : هو على حقيقته وظاهر لفظه ، والمراد أنه يحاذيها بقرنيه عند غروبها ، وكذلك عند طلوعها ; لأن الكفار يسجدون لها حينئذ ، فيقارنها ليكون الساجدون لها في صورة الساجدين له ، وتخيل لنفسه ولأعوانه أنهم إنما يسجدون له وقيل : هو على المجاز ، والمراد بقرنه وقرنيه : علوه وارتفاعه وسلطانه وغلبة أعوانه ، وسجود مطيعيه من الكفار للشمس ، قاله النووي . وقال الخطابي : هو تمثيل ، ومعناه أن تأخيرها بتزيين الشيطان ومدافعته لهم عن تعجيلها ، كمدافعة ذوات القرون لما تدفعه

                                                                                                                                            قوله : ( فنقرها ) المراد بالنقر سرعة الحركات كنقر الطائر ، قال الشاعر :

                                                                                                                                            لا أذوق النوم إلا غرارا مثل حسو الطير ماء الثماد

                                                                                                                                            وفي الحديث دليل على كراهة تأخير الصلاة إلى وقت الاصفرار ، والتصريح بذم من أخر صلاة العصر بلا عذر ، والحكم على صلاته بأنها صلاة المنافق ، ولا أردع لذوي الإيمان وأفزع لقلوب أهل العرفان من هذا . وقوله : ( يجلس يرقب الشمس ) فيه إشارة إلى أن الذم متوجه إلى من لا عذر له ، وقوله : ( فنقرها أربعا ) فيه تصريح بذم من صلى مسرعا بحيث لا يكمل الخشوع والطمأنينة والأذكار ، وقد نقل بعضهم الاتفاق على عدم جواز التأخير إلى هذا الوقت لمن لا عذر له ، وهذا من أوضح الأدلة القاضية بصحة الجمع بين الأحاديث التي ذكرناها في الحديث الذي قبل هذا

                                                                                                                                            427 - ( وعن أبي موسى عن { النبي صلى الله عليه وسلم قال وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا ، وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر ، والناس لا يكاد يعرف [ ص: 381 ] بعضهم بعضا ، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس ، والقائل يقول : انتصف النهار أو لم ؟ ، وكان أعلم منهم ، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة ، ثم أمره فأقام المغرب حين وقبت الشمس ، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت ، وأخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس ، ثم أخر العصر فانصرف منها ، والقائل يقول : احمرت الشمس ، ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ، وفي لفظ : فصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ، وأخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ، ثم أصبح فدعا السائل فقال : الوقت فيما بين هذين } . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الأسلمي ) . حديث بريدة صححه الترمذي ولفظه : { أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال : صل معنا هذين الوقتين ، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن ، ثم أمره فأقام الظهر ، تم أمره فأقام العصر ، والشمس مرتفعة بيضاء نقية ، ثم أمره فأقام المغرب حين غربت الشمس ، تم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، تم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر ، فلما أن كان اليوم الثاني أمره ، فأبرد بالظهر وأنعم أن يبرد بها ، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان ، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق ، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل ، وصلى الفجر فأسفر بها ، ثم قال : أين السائل عن وقت الصلاة ؟ فقال الرجل : أنا يا رسول الله . قال : وقت صلاتكم بين ما رأيتم } .

                                                                                                                                            قوله : ( وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئا ) أي لم يرد جوابا ببيان الأوقات باللفظ ، بل قال له : صل معنا لتعرف ذلك ، ويحصل لك البيان بالفعل ، كما وقع في حديث بريدة أنه قال له : " صل معنا هذين اليومين " ، وليس المراد أنه لم يجب عليه بالقول ولا بالفعل ، كما هو الظاهر من حديث أبي موسى ; لأن المعلوم من أحواله أنه كان يجيب من سأله عما يحتاج إليه ، فلا بد من تأويل ما في حديث أبي موسى من قوله : " فلم يرد عليه شيئا " . بما ذكرنا . وقد ذكر معنى ذلك النووي .

                                                                                                                                            قوله : ( انشق الفجر ) أي طلع . وقوله : ( والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا ) بيان لذلك الوقت . قوله : ( وقبت الشمس ) هو بقاف فباء موحدة فتاء مثناة ، يقال : وقبت الشمس وقبا ووقوبا : غربت ، ذكر معناه في القاموس .

                                                                                                                                            وفي الحديث بيان مواقيت الصلاة ، وفيه تأخير وقت العصر إلى قرب احمرار الشمس ، وفيه " أنه أخر العشاء حتى كان ثلث الليل " .

                                                                                                                                            وفي حديث عبد الله بن عمرو السابق أنه أخرها إلى نصف الليل ، وهو بيان لآخر وقت [ ص: 382 ] الاختيار ، وسيأتي تحقيق ذلك . قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا الحديث يعني حديث الباب في إثبات الوقتين للمغرب ، وجواز تأخير العصر ما لم تصفر الشمس أولى من حديث جبريل عليه السلام ; لأنه كان بمكة في أول الأمر ، وهذا متأخر ومتضمن زيادة فكان أولى ، وفيه من العلم جواز تأخير البيان عن وقت السؤال انتهى . وهكذا صرح البيهقي والدارقطني وغيرهما أن صلاة جبريل كانت بمكة ، وقصة المسألة بالمدينة ، وصرحوا بأن الوقت الآخر لصلاة المغرب رخصة . وقد ذكرنا طرفا من ذلك في شرح حديث جبريل ، وفيه زيادة أن ذلك في صبيحة ليلة الإسراء

                                                                                                                                            . وقوله : ( الوقت فيما بين هذين الوقتين ) ينفي بمفهومه وقتيه ما عداه ، ولكن حديث : { من أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس ، ومن الفجر ركعة قبل طلوع الشمس } وغيره ، منطوقات ، وهي أرجح من المفهوم ، ولا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع ، وقد أمكن بما عرفت في شرح حديث عبد الله بن عمرو ، ولو صرت إلى الترجيح لكان حديث أنس المذكور قبل هذا مانعا من التمسك بتلك المنطوقات ، والمصير إلى الجمع لا بد منه .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية