الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قال رب أنى يكون لي غلام استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ؟ فقيل: قال رب الخ، وخاطب عليه السلام ربه سبحانه ولم يخاطب الملك المنادي طرحا للوسائط مبالغة في التضرع وجدا في التبتل، و (أنى) بمعنى كيف، أو من أين، وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها غلام و (أنى) واللام متعلقان بها، ويجوز أن تكون ناقصة و (لي) متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة، وفي الخبر حينئذ وجهان: أحدهما: (أنى) لأنها بمعنى كيف، أو من أين، والثاني: أن الخبر الجار، و (أنى) منصوب على الظرفية، وفي التنصيص على ذكر الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله تعالى: إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بلغني الكبر حال من ياء المتكلم، أي أدركني الكبر وأثر [ ص: 149 ] في، وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام كأن الكبر طالب له وهو المطلوب، روي عن ابن عباس أنه كان له عليه السلام حين بشر بالولد مائة وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، وقيل: كان له من العمر تسع وتسعون سنة، وقيل: اثنتان وتسعون، وقيل: خمس وثمانون، وقيل: خمس وسبعون، وقيل: سبعون، وقيل: ستون.

                                                                                                                                                                                                                                      وامرأتي عاقر جملة حالية أيضا إما من ياء (لي) أو ياء بلغني والعاقر العقيم التي لا تلد من العقر وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد، وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث، قاله أبو البقاء، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ولم يكن وصفا لازما، وكانت الثانية اسمية لأن كونها عاقرا وصف لازم لها وليس أمرا طارئا عليها، وإنما قال ذلك عليه السلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لاسيما بعد مشاهدته عليه السلام الشواهد السالفة استفسارا عن كيفية حصول الولد أيعطاه على ما هو عليه من الشيب ونكاح امرأة عاقر أم يتغير الحال، قاله الحسن، وقيل: اشتبه عليه الأمر؛ أيعطى الولد من امرأته العجوز أم من امرأة أخرى شابة فقال ما قال، وقيل: قال ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى والتعجب الذي يحصل للإنسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول لغيره: كيف سمحت نفسك بإخراج ذلك الملك النفيس من يدك؟! تعجبا من جوده، وقيل: إن الملائكة لما بشرته بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة التبني; أو من صلبه فذكر ذلك الكلام ليزول هذا الاحتمال، وقيل: إن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء وطلبه من السيد ووعده السيد بإعطائه ربما تكلم بما يستدعي إعادة الجواب ليلتذ بالإعادة وتسكن نفسه بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فيحتمل أن يكون كلام زكريا عليه السلام هذا من هذا الباب، وقيل: قال ذلك استبعادا من حيث العادة لأنه لما دعا كان شابا ولما أجيب كان شيخا بناء على ما قيل: إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة أو ستين سنة، كما حكي عن سفيان بن عيينة وكان قد نسي دعاءه ولا يخفى ما في أكثر هذه الأقوال من البعد.

                                                                                                                                                                                                                                      وأبعد منها ما نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة، فقال: إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر عليه، فقال: رب أنى يكون لي ولد وكان مقصوده من ذلك أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي لا من الشيطان، ومثله ما روى ابن جرير عن عكرمة أنه قال: "أتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه، فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم، ناداني ملائكة ربي، قال: بل ذلك الشيطان، ولو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك، فقال: رب أنى يكون لي الخ".

                                                                                                                                                                                                                                      واعترضه القاضي وغيره بأنه لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم السلام، إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: إنه لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين فلا جرم يحصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملك ولا يدخل الشيطان فيه، وأما فيما يتعلق بمصالح الدنيا والولد أشبه شيء بها فربما لم يتأكد ذلك بالمعجز، فلا جرم بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ولهذا رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال، وأنت تعلم أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى، ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء الله تعالى مستوفى عند تفسير قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وبالجملة القول باشتباه الأمر على زكريا عليه السلام في غاية البعد لا سيما وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر [ ص: 150 ] عن قتادة أنه قال: "إن الملائكة شافهته عليه السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى".

                                                                                                                                                                                                                                      (قال) أي الرب، والجملة استئناف على طرز ما مر كذلك الله يفعل ما يشاء [ 40 ] أي يفعل الله ما يشاء أن يفعله من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هو خلق الولد مع الحالة التي يستبعد معها الخلق بحسب العادة، فالكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف، والإشارة لذلك المصدر، وقدم الجار لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد الفخامة المشعر بها اسم الإشارة على ما أشير إليه من قبل في نظيره، ويحتمل الكلام أوجها أخر:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: أن يكون الكاف في موضع الحال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك، الثاني: أن يكون في موضع الرفع على أنه خبر مقدم، و " الله " مبتدأ مؤخر، أي كهذا الشأن العجيب شأن الله تعالى، وتكون جملة يفعل ما يشاء بيانا لذلك الشأن المبهم، الثالث: أن يكون كذلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف أي: الأمر كذلك، وتكون جملة الله يفعل ما يشاء بيانا أيضا، الرابع: أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور من حال زكريا عليه السلام، كأنه قال: رب على أي حال يكون لي الغلام؟ فقيل له: كما أنت يكون الغلام لك، وتكون الجملة حينئذ تعليلا لما قبلها كذا قالوا، ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد، وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل روما للتعظيم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية