الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( أتتركون في ما ها هنا آمنين ( 146 ) في جنات وعيون ( 147 ) وزروع ونخل طلعها هضيم ( 148 ) وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ( 149 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 150 ) )

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود : أيترككم يا قوم ربكم في هذه الدنيا آمنين ، لا تخافون شيئا ؟ . ( في جنات وعيون ) يقول : في بساتين وعيون ماء . ( وزروع ونخل طلعها هضيم ) يعني بالطلع : الكفرى .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( هضيم ) فقال بعضهم : معناه اليانع النضيج .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( ونخل طلعها هضيم ) يقول : أينع وبلغ فهو هضيم .

وقال آخرون : بل هو المتهشم المتفتت . [ ص: 381 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( ونخل طلعها هضيم ) قال محمد بن عمرو في حديثه تهشم هشيما . وقال الحارث : تهشم تهشما .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الكريم يقول : سمعت مجاهدا يقول في قوله : ( ونخل طلعها هضيم ) قال : حين تطلع يقبض عليه فيهضمه .

قال ابن جريج : قال مجاهد : إذا مس تهشم وتفتت ، قال : هو من الرطب هضيم تقبض عليه فتهضمه .

وقال آخرون : هو الرطب اللين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة قوله : ( ونخل طلعها هضيم ) قال : الهضيم : الرطب اللين .

وقال آخرون : هو الراكب بعضه بعضا .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( طلعها هضيم ) إذا كثر حمل النخلة فركب بعضها بعضا ، حتى نقص بعضها بعضا ، فهو حينئذ هضيم .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : الهضيم : هو المتكسر من لينه ورطوبته ، وذلك من قولهم : هضم فلان حقه : إذا انتقصه وتحيفه ، فكذلك الهضم في الطلع ، إنما هو التنقص منه من رطوبته ولينه إما بمس الأيدي ، وإما بركوب بعضه بعضا ، وأصله مفعول صرف إلى فعيل .

وقوله : ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) يقول تعالى ذكره : وتتخذون من الجبال بيوتا .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( فارهين ) فقرأته عامة قراء أهل الكوفة : [ ص: 382 ] ( فارهين ) بمعنى : حاذقين بنحتها .

وقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : " فرهين " بغير ألف ، بمعنى : أشرين بطرين .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القراء في قراءته ، فقال بعضهم : معنى فارهين : حاذقين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عثام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح وعبد الله بن شداد : ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) قال أحدهما : حاذقين ، وقال الآخر : يتجبرون .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا مروان ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) قال : حاذقين بنحتها .

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( فارهين ) يقول : حاذقين .

وقال آخرون : معنى فارهين : مستفرهين متجبرين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن السدي ، عن عبد الله بن شداد في قوله : " فرهين " قال : يتجبرون .

قال أبو جعفر : والصواب : فارهين .

وقال آخرون ممن قرأه فارهين : معنى ذلك : كيسين .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فارهين ) قال : كيسين .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، عن الضحاك أنه قرأ ( فارهين ) قال : كيسين .

وقال آخرون : فرهين : أشرين . [ ص: 383 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) يقول : أشرين ، ويقال : كيسين .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " بيوتا فرهين " قال : شرهين .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بمثله .

وقال آخرون : معنى ذلك : أقوياء .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين " قال : الفره : القوي .

وقال آخرون في ذلك بما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة ، في قوله : " فرهين " قال : معجبين بصنيعكم . والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن قراءة من قرأها ( فارهين ) وقراءة من قرأ " فرهين " قراءتان معروفتان ، مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما في علماء القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . ومعنى قراءة من قرأ ( فارهين ) : حاذقين بنحتها ، متخيرين لمواضع نحتها ، كيسين ، من الفراهة . ومعنى قراءة من قرأ " فرهين " : مرحين أشرين . وقد يجوز أن يكون معنى فاره وفره واحدا ، فيكون فاره مبنيا على بنائه ، وأصله من فعل يفعل ، ويكون فره صفة ، كما يقال : فلان حاذق بهذا الأمر وحذق . ومن الفاره بمعنى المرح قول الشاعر عدي بن وادع العوفي من الأزد :


لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ولن تراني بخير فاره الطلب

[ ص: 384 ]

أي : مرح الطلب . وقوله : ( فاتقوا الله وأطيعون ) يقول تعالى ذكره : فاتقوا عقاب الله أيها القوم على معصيتكم ربكم ، وخلافكم أمره ، وأطيعون في نصيحتي لكم ، وإنذاري إياكم عقاب الله ترشدوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية