الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المدعي والمدعى عليه ( قال الشافعي ) : رحمه الله تعالى قال فما تقول في البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه أهي عامة ؟ قلت لا ، ولكنها خاصة على بعض الأشياء دون بعض قال فإني أقول إنها عامة قلت حتى يبطل بها جميع ما خالفتنا عليه قال فإن قلت ذلك ؟ قلت إذا تترك عامة ما في يدك قال وأين قلت فما البينة التي أمرت أن لا تعطى بأقل منها ؟ قال بشاهدين ، أو شاهد وامرأتين قلت فما تقول في مولى لي وجدته قتيلا في محلة فلم أقم بينة على أحد منهم بعينه أنه قتله ؟ قال نحلف منهم خمسين رجلا خمسين يمينا ، ثم نقضي بالدية عليهم وعلى عواقلهم في ثلاث سنين قلت فقالوا لك زعمت أن كتاب الله يحرم أن يعطى بأقل من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين وزعمت أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرم أن يعطى مدع إلا بالبينة وهي شاهدان عدلان ، أو شاهد وامرأتان وزعمت أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن اليمين براءة لمن حلف فكيف أعطيت بلا شاهد وأحلفتنا ولم تبرئنا فخالفت في جملة قولك الكتاب والسنة ؟ قال لم أخالفهما وهذا عن عمر بن الخطاب قلت أرأيت لو كان ثابتا عن عمر لكان هذا الحكم مخالفا للكتاب والسنة وما قال عمر من أن البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه ؟ قال لا ; لأن عمر أعلم بالكتاب والسنة ومعنى ما قال قلت أفدلك هذا الحكم خاصة على أن دعواك أن الكتاب يحرم أن يعطى أحد بأقل من شاهدين وأن السنة تحرم أن يحول حكم عن أن يعطى فيه بأقل من شاهدين ، أو يحلف فيه أحد ، ثم لا يبرأ ليس بعام على جميع الأشياء كما قلت ؟ قال نعم ليس بعام ولكني إنما أخرجت هذا من جملة الكتاب والسنة بالخبر عن عمر قلت أفرأيتنا قلنا باليمين مع الشاهد بآرائنا ، أو بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ألزم لنا ولك من الخبر عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت أرأيت إن قال لك أهل المحلة إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم { البينة على المدعي } فلم لا تكلف هذا بينة وقال اليمين على المدعى عليه وقال ذلك عمر أفمدعى علينا قال ؟ كأنكم قلنا وكأنكم ظن ، أو يقين هذا ولي القتيل لا يزعم أنا قتلناه ، وقد يمكن أن يكون غيرنا قتله وطرحه علينا فكيف أحلفتنا ولسنا مدعى علينا قال فأجعلكم كالمدعى عليهم قلنا فقالوا ولم تجعلنا وولي الدم لا يدعي علينا ، وإذا جعلتنا أفبعضنا مدعى عليه ، أو كلنا ؟ فقال ، بل كلكم فقلنا فقالوا فأحلفنا كلنا فلعل فينا من يقر فتسقط الغرامة عنا وتلزمه قال فلا أحلفكم كلكم إذا جاوزتم خمسين قلنا فقالوا لو ادعى علينا درهما أتحلفنا كلنا ؟ قال نعم قلنا فقالوا فأنت تظلم ولي القتيل إذا لم تحلفنا كلنا وكلنا مدعى علينا وتظلمنا إذا أحلفتنا ولسنا مدعى علينا وتخص بالظلم خيارنا ولا تقتصر على يمين واحدة على إنسان لو كنا اثنين أحلفت كل واحد منا خمسة وعشرين يمينا ، أو واحدا أحلفته خمسين يمينا وإنما الأيمان على كل من حلف من كان

[ ص: 14 ] فيما سوى هذا عندك وإن عظم يمين واحدة وتحلفنا وتغرمنا فكيف جاز هذا لك ؟ قال رويت هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قلت فقالوا لك فإذا رويت أنت الشيء عن عمر ألا تتهم المخبرين عنه وتتركه لأن ظاهر الكتاب يخالفه والسنة وما جاء عنه ؟ قال لا يجوز لي أن أزعم أن الكتاب ولا السنة ولا قوله يخالفه ولكني أقول الكتاب على خاص والسنة وقوله كذلك قلت فإن قيل : إنه غلط من رواه عن عمر ; لأن عمر لا يخالف ظاهر الكتاب والسنة وقوله هو نفسه البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه قال لا يجوز أن أتهم من أثق به ولكني أقول إن الكتاب والسنة .

وقول عمر على خاص وهذا كما جاء فيما جاء فيه وأستعمل الأخبار إذا وجدت إلى استعمالها سبيلا ولا أبطل بعضها ببعض قلت فلم إذا قلنا باليمين مع الشاهد زعمت أن الكتاب والسنة عام ، ثم قلت الآن خاص ولم تجز لنا ما أجزت لنفسك ؟ وقلت له أرأيت إن قال لك أهذا الحديث ثابت عن عمر ؟ قال نعم هو ثابت فقلت فقال لك فقلت به على ما قضى به عمر ولم تلتفت إلى شيء إن خالفه في أصل الجملة وقلدت عمر فيه ؟ قال نعم وهو ثابت فقلت له فقال لك خالفت الحديث عن عمر فيه قال وأين ؟ قلت أخبرنا سفيان بن عيينة عن منصور عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب في قتيل وجد بين خيران ووداعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلا حتى يوافوه بمكة ، فأدخلهم الحجر فأحلفهم ، ثم قضى عليهم بالدية فقالوا ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا فقال عمر كذلك الأمر وقال غير سفيان عن عاصم الأحول عن الشعبي قال قال عمر حقنتم بأيمانكم دماءكم ولا يبطل دم مسلم قال وهكذا الحديث قلنا أفللحاكم اليوم أن يرفع قوما من مسيرة اثنين وعشرين ليلة وعندهم حاكم يجوز حكمه ؟ قال لا ولا من مسيرة ثلاث قلنا فقد رفعهم عمر من مسيرة اثنين وعشرين ليلة وعندهم حكام تجوز أحكامهم هم أقرب إليهم من مكة قلنا أفللحاكم أن يكتب إلى الحاكم يخرج خمسين رجلا ، أو إنما ذلك إلى ولي الدم يختار منهم خمسين رجلا ؟ قال ، بل إلى ولي الدم قلنا فعمر إنما كتب إلى الحاكم برفع خمسين فرفعهم زعمت ولم يجعل رفعهم إلى ولي الدم ولم يأمره بتخيرهم فيرفعهم الحاكم باختيار الولي قلنا ، أو للحاكم أن يحلفهم في الحجر ؟ قال لا ويحلفهم حيث يحكم قلنا فعمر لا يحكم في الحجر ، وقد أحلفهم فيه قلنا ، أو للحاكم لو لم يحلفوا أن يقتلهم ؟ قال لا قلنا فعمر يخبر أنهم إنما حقنوا دماءهم بأيمانهم وهذا يدل على أنه يقتلهم لو لم يحلفوا فهذه أحكام أربعة تخالف فيها عمر لا مخالف لعمر فيها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد علمته خالفه فيها وتقبل عنه حكما يخالف بعض حكم النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة ; لأن { رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل على يهود دية ، وقد وجد عبد الله بن سهل بينهم } أفتأخذ ببعض ما رويت عن عمر وله عن النبي صلى الله عليه وسلم مخالف وتترك ما رويت عنه مما لا مخالف له عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من أصحابه أربعة أحكام . فأي جهل أبين من قولك هذا ؟ قال أفثابت هو عندك ؟ قلت لا إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور ، والحارث الأعور مجهول ونحن نروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد الثابت أنه بدأ المدعين فلما لم يحلفوا قال أفتبرئكم يهود بخمسين يمينا فإذا قال أفتبرئكم لا يكون عليهم غرامة ولما لم يقبل الأنصاريون أيمانهم وداه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعل على اليهود ، والقتيل بين أظهرهم شيئا ويروى عن عمر أنه بدأ المدعى عليهم ، ثم ردوا الأيمان على المدعين وهذان جميعا يخالفان ما رويتم عنه وقلت له إذ زعمت أن الكتاب يدل على أن لا يقبل أقل من شاهد وامرأتين وأن السنة تدل على أن لا يعطى أحد إلا ببينة فما تقول في رجل قال لامرأته ما ولدت هذا الولد مني وإنما [ ص: 15 ] استعرتيه ليلحق بي نسبه ؟ قال إن جاءت بامرأة واحدة تشهد بأنها ولدته ألحقته به إلا أن يلاعنها قلت : وكذلك عيوب النساء ، والولاد تجيز فيه شهادة امرأة واحدة ؟ قال نعم قلت فعمن رويت هذا القول ؟ قال عن علي رضي الله تعالى عنه بعضه ; قلت أفيد لك هذا على أن ما زعمت من أن القرآن يدل على أن لا يقبل أقل من شاهد وامرأتين والسنة ليس كما ادعيت ؟ قال نعم ، وقد أعطيتك هذا قبل هذا في القسامة ولكن في هذا علة أخرى قلت وما هي ؟ قال إن الله عز وجل إنما وضع حدوده على ما يحل فلو أن شاهدين عمدا أن ينظرا إلى فرج امرأة تلد ليشهدا لها بذلك كانا بذلك فاسقين لا تقبل شهادتهما .

قلت فهل في القرآن استثناء إلا ما لا يراه الرجال قال لا قلت فقد خالفت في أصل قولك القرآن ، قلت أفرأيت شهود الزنا إذا كانوا يديمون النظر ويرصدون المرأة والرجل يزنيان حتى يثبتوا ذلك يدخل منه دخول المرود في المكحلة فيرون الفرج والدبر ، والفخذين وغير ذلك من بدنهما إلى ما لا يحل لهم نظره أم إلى ما يحرم عليهم قال ، بل إلى ما يحرم عليهم .

قلت فكيف أجزت شهادتهم ؟ قال أجازها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قلت فإن كان عمر بن الخطاب يجيز شهادة من نظر إلى ما يحرم عليه ; لأنه إنما نظر ليشهد لا ليفسق فكيف زعمت أنك ترد شهادة من نظر إلى ما يحرم عليه ليشهد وفسقته قال ما أردها .

قلت : قد زعمت ذلك أولا فانظر فإن كانت امرأة مسلمة صالحة عند فاسق فقالت هو ينكر ولدي فيقلدني وولدي عارا وأنت تزعم أن الكتاب والسنة لا يجيزان أقل من شاهد وامرأتين فأجلس شاهدين ، أو شاهدا وامرأتين من خلف الباب والنساء معي فإذا خرج رأس ولدي كشفنني ليروا خروجه مني فيلحق بأبيه فهذا نظر لنثبت به شهادة لي وللمولود وهو من حقوق الناس وأنت تشدد في حقوق الناس وليس هذا بنظر يتلذذ به الشاهدان ، بل هو نظر يقذرانه ونظر شهود الزنا يجمع أمرين أنه أطول من نظرهما إلى ولادتي وأعم لعامة البدن وأنه نظر لذة يحرك الشهوة ويدعو إليها ، فأجز هؤلاء كما أجزت شهادة شهود الزنا واردد شهادة شهود الزنا فهم أولى أن يردوا إذا كان ذلك يجوز لقولك إن من نظر إلى ما يحرم عليه فهو بذلك فاسق ترد شهادته إذا كان حدا لله عز وجل وأنت تدرأ حد الله بالشبهات وتأمر بالستر على المسلمين ، قال لا أرد هؤلاء لو شهدوا ولا أكلفك هذا .

قلت فقد خالفت ما قلت أولا من أن الله عز وجل حرم أن يجوز أقل من شاهدين ، أو شاهد وامرأتين ومما ادعيت في السنة وما احتججت به من أن هذا محرم على الناس أن يشهدوا فيه ، وقلت أرأيت استهلال المولود ، لم تقبل عليه شهادة امرأة والرجال يرونه قال قبلتها على ما قلت أولا قلت : أفلا تدع ذلك بما ادعيت في الكتاب والسنة ؟ قال لا يخالف الكتاب .

قلت فالكتاب والسنة بهذا وبالقتيل يوجد في المحلة خاص ؟ قال نعم : قلت لا تحتج بأنه عام مرة وتقول أخرى هو خاص وقلت له أرأيت الرجل ، والمرأة يتداعيان متاع البيت لم لم تحكم فيه بأن تجعله للذي له البيت ، أو للمرأة ; لأنها ألزم للبيت وتجعل الزوج مدعيا ، أو المرأة وتكلف أيهما جعلت مدعيا البينة ، أو تجعله في أيديهما فتقسمه بينهما وبهذا نقول نحن فنقسمه بينهما وأنت تخالف هذا فتعطيها على غير بينة ولا معنى لكينونة الشيء في أيديهما فتجعل متاع الرجال للرجال ومتاع النساء للنساء وما يصلح لهما معا بينهما ، وقد يملك الرجل متاع النساء ، والمرأة متاع [ ص: 16 ] الرجال ، أو أورأيت الرجلين يتداعيان الجدار معا لم لم تجعله بينهما ؟ .

وكذلك نقول نحن ولم جعلته لمن يليه معاقد القمط وأنصاف اللبن ؟ فتقول هذا كالدلالة على أن من يليه معاقد القمط وأنصاف اللبن مالك للجدار ، وقد يبني الرجل الجدار بناء مختلفا ، وقد يكونان اقتسما المنزل فلم يعتدل القسم إلا بأن يجعلا هذا الجدار لمن ليس إليه معاقد القمط وأنصاف اللبن ؟ ويكون أحدهما اشتراه هكذا ، أو رأيت الرجل يتكارى من رجل بيتا فيختلفان في رفاف البيت والرفاف بناء فلم لم تجعل البناء لصاحب البيت ؟ .

وكذلك نقول زعمت أنت أن الرفاف إن كانت ثابتة في الجدار فهي لصاحب البيت وإن كانت ملتصقة فهي للساكن ، وقد يبني صاحب البيت رفافا ملتصقة ويبني الساكن رفافا فيحفر لها في الجدار فتصير فيه ثابتة وأعطيت في هذا كله بلا بينة واستعملت فيه أضعف الدلالة ولم تعتمد فيه على أثر ثابت ولا إجماع من الناس ، ثم لم تنسب نفسك إلى خلاف كتاب الله ولا سنة ولا قياس وإن كان قول الله عز وجل فيه { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } محرما أن يعطي أحد بأقل من هذا فقد أعطيته بأقل من هذا وخالفته بلا عذر وخالفت ما ادعيت من أن السنة دلت على أن لا يعطى أحد إلا ببينة فيه وفي غيره مما هذا كاف منه ومبين عليك تركك قولك فيه قال فإنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما جاءكم عني فاعرضوه على القرآن فإن وافقه ، فأنا قلته وإن خالفه فلم أقله } فقلت له فهذا غير معروف عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا خلاف هذا وليس يعرف ما أراد خاصا وعاما وفرضا وأدبا وناسخا ومنسوخا إلا بسنته صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله عز وجل به فيكون الكتاب بحكم الفرض والسنة تبينه قال وما دل على ذلك ؟ قلت قول الله عز وجل { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فقد بين الله عز وجل أن الرسول قد يسن وفرض الله على الناس طاعته ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : أخبرنا سفيان بن عيينة قال حدثني سالم أبو النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه ، أو أمرت به فيقول ما ندري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه } .

( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : وقلت له لو كان هذا الحديث الذي احتججت به ثابتا كنت قد تركته فيما وصفنا وفيما سنصف بعض ما يحضرنا منه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية