الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فقه التوسط (مقاربة لتقعيد وضبط الوسطية)

الدكتور / نوار بن الشلي

أعط نفسك حقها واستوف حقك منها

هذه القاعدة نص للإمام ابن الجوزي ، رحمه الله، في كتابه القيم «صيد الخاطر» كما سيأتي قريبا جدا، ومعناها مستمد من نصوص السنة المطهرة ومن فقه الصـحابة، رضي الله عنهم : فمن ذلك ما رواه البخاري وغيره عن عـون بن أبى جـحيفة عن أبيه ( قال: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سـلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة. فقال لها: ما شـأنك؟ قالت: أخـوك أبو الـدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما. فقال: كل، قال: فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم. فقـال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سـلمان: قم الآن. فصـليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان ) [1] .

قال ابن الجوزي، رحمه الله:

«أعجب الأشـياء مجاهدة النفس؛ لأنها تحتاج إلى صـناعة عجيبة، فإن أقواما أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقواما بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها، وأثر ظلمهم لها في تعبداتهم، فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها.. منهم من أفردها في [ ص: 62 ] خلوة أثمرت الوحشة من الناس وآلت إلى ترك فرض أو فضل عيادة مريض أو بر والدة.. وإنما الحازم من تعلم منه نفسـه الجد وحفظ الأصـول، فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه، فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده، فإنه لا ينبسط إليه الغلام فإن انبسط ذكر هيبة المملكة عليها فكذلك المحقق يعطيها حظها ويستوفي منها ما عليها» [2] .

وقال في موضع آخر مفصلا هذا المعنى: «تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقا من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين:

أحـدهما: أنه رب مانع لها شـهوة أعطـاها بالمنع أوفى منها، مثل أن يمنعها مباحا فيشتهر بمنعه إياها ذلك، فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح.. وأخفى من ذلك أن يرى -بمنعه إياها ما منع- أنه قد فضل سواه ممن لم يمنعها ذلك وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها.

والوجه الثاني: أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها، ونحن كالوكلاء في حفظها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها، وأكثر ذلك أو كله ما تشتهيه، لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر، ثم رب شد أوجب استرخاء، ورب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها، وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقـل، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية...» [3] . [ ص: 63 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية