الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ( 224 ) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ( 225 ) وأنهم يقولون ما لا يفعلون ( 226 ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( 227 ) )

يقول تعالى ذكره : والشعراء يتبعهم أهل الغي لا أهل الرشاد والهدى .

واختلف أهل التأويل في الذين وصفوا بالغي في هذا الموضع فقال بعضهم : رواة الشعر .

ذكر من قال ذلك :

حدثني الحسن بن يزيد الطحان ، قال : ثنا إسحاق بن منصور ، قال : ثنا قيس ، عن يعلى ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ; وحدثني أبو كريب ، قال : ثنا طلق بن غنام ، عن قيس ; وحدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن يعلى بن النعمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال : الرواة .

وقال آخرون : هم الشياطين . [ ص: 416 ]

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) : الشياطين .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( يتبعهم الغاوون ) قال : يتبعهم الشياطين .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن عكرمة ، في قوله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال : عصاة الجن .

وقال آخرون : هم السفهاء ، وقالوا : نزل ذلك في رجلين تهاجيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) . . . إلى آخر الآية ، قال : كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، وأنهما تهاجيا ، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه ، وهم السفهاء ، فقال الله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال : كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، تهاجيا ، مع كل واحد منهما غواة من قومه ، وهم السفهاء .

وقال آخرون : هم ضلال الجن والإنس .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : [ ص: 417 ] ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال : هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال : الغاوون المشركون .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال فيه ما قال الله جل ثناؤه : إن شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ، ومردة الشياطين ، وعصاة الجن ، وذلك أن الله عم بقوله : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) فلم يخصص بذلك بعض الغواة دون بعض ، فذلك على جميع أصناف الغواة التي دخلت في عموم الآية . قوله : ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) يقول تعالى ذكره : ألم تر يا محمد أنهم ، - يعني الشعراء - في كل واد يذهبون ، كالهائم على وجهه على غير قصد ، بل جائرا على الحق ، وطريق الرشاد ، وقصد السبيل .

وإنما هذا مثل ضربه الله لهم في افتنانهم في الوجوه التي يفتنون فيها بغير حق ، فيمدحون بالباطل قوما ويهجون آخرين كذلك بالكذب والزور .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) يقول : في كل لغو يخوضون .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( في كل واد يهيمون ) قال : في كل فن يفتنون .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ( ألم تر أنهم في كل واد ) قال : فن ( يهيمون ) قال : يقولون .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( في كل واد يهيمون ) قال : يمدحون قوما بباطل ، ويشتمون قوما بباطل .

وقوله : ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) يقول : وأن أكثر قيلهم باطل وكذب .

كما حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) يقول : أكثر قولهم يكذبون .

وعني بذلك شعراء المشركين . [ ص: 418 ]

كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : قال رجل لأبي : يا أبا أسامة ، أرأيت قول الله جل ثناؤه : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فقال له أبي : إنما هذا لشعراء المشركين ، وليس شعراء المؤمنين ، ألا ترى أنه يقول : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . . . إلخ . فقال : فرجت عني يا أبا أسامة ; فرج الله عنك .

وقوله : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) وهذا استثناء من قوله ( والشعراء يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . وذكر أن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ثم هو لكل من كان بالصفة التي وصفه الله بها .

وبالذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة وعلي بن مجاهد ، وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال : جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) إلى آخر السورة في حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك .

قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة وطاوس ، قالا قال : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) ، فنسخ من ذلك واستثنى ، قال : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . . . الآية .

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، [ ص: 419 ] قال : ثم استثنى المؤمنين منهم ، يعني الشعراء ، فقال : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، فذكر مثله .

حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال : هم الأنصار الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البراد ، قال : لما نزلت : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) ثم ذكر نحو حديث ابن حميد عن سلمة .

وقوله : ( وذكروا الله كثيرا ) اختلف أهل التأويل في حال الذكر الذي وصف الله به هؤلاء المستثنين من الشعراء ، فقال بعضهم : هي حال منطقهم ومحاورتهم الناس ، قالوا : معنى الكلام : وذكروا الله كثيرا في كلامهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا ) في كلامهم .

وقال آخرون : بل ذلك في شعرهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وذكروا الله كثيرا ) قال : ذكروا الله في شعرهم .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف هؤلاء الذين استثناهم من شعراء المؤمنين بذكر الله كثيرا ، ولم يخص ذكرهم الله على حال دون حال في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، فصفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا في كل أحوالهم .

وقوله : ( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) يقول : وانتصروا ممن هجاهم من شعراء المشركين ظلما بشعرهم وهجائهم إياهم ، وإجابتهم عما هجوهم به . [ ص: 420 ]

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : ( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وانتصروا من المشركين ( من بعد ما ظلموا ) .

وقيل : عني بذلك كله الرهط الذين ذكرت .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا علي بن مجاهد وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ) .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البراد ، قال : لما نزلت ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) ثم ذكر نحوه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال : عبد الله بن رواحة وأصحابه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال : عبد الله بن رواحة .

وقوله : ( وسيعلم الذين ظلموا ) يقول تعالى ذكره : وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله من أهل مكة ( أي منقلب ينقلبون ) يقول : أي مرجع يرجعون إليه ، وأي معاد يعودون إليه بعد مماتهم ، فإنهم يصيرون إلى نار لا يطفأ سعيرها ، ولا يسكن لهبها . [ ص: 421 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، وعلي بن مجاهد ، وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) يعني : أهل مكة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) قال : وسيعلم الذين ظلموا من المشركين أي منقلب ينقلبون .

آخر تفسير سورة الشعراء

التالي السابق


الخدمات العلمية