الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( وعائشه في العلم مع خديجة في السبق فافهم نكتة النتيجه ) )



( ( وعائشة ) ) الصديقة بنت الصديق - رضي الله عنهما - أم عبد الله ، أم المؤمنين ، وحبيبة رسول رب العالمين ، عقد عليها وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث ، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى وهي بنت تسع ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة ، وتوفيت بالمدينة ، ودفنت بالبقيع ، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة - رضي الله عنه - سنة ثمان وخمسين ، فهي - رضي الله عنها - وعن أبيها أفضل نسائه - صلى الله عليه وسلم - .

( ( في العلم ) ) النافع والفقه الناصع فلها ( من ) الفضل في ذلك ما ليس لغيرها من أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، حتى كان الأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - إذا أشكل عليهم أمر من الدين استفتوها ، فيجدون علمه عندها ، وقد وقع الخلاف بين علماء السلف في التفضيل بينها وبين أم المؤمنين خديجة ، فقدم البلباني من متأخرة علمائنا تبعا لابن حمدان في نهاية المبتدئين أن عائشة أفضل النساء ، وقال الإمام موفق الدين : أفضل النساء خديجة . قال المحقق ابن القيم في كتابه جلاء الأفهام : وقد اختلف في تفضيل خديجة على عائشة على ثلاثة أقوال : ثالثها الوقف . قال : وسألت شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - عنهما فقال : اختص كل واحدة منهما بخاصة . وإلى هذا أشرت بقولي : ( ( مع خديجة ) ) بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أم المؤمنين ، وأول أزواج رسول رب العالمين ، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله تعالى برسالته ، فآمنت به وصدقته ونصرته ، وكانت له وزير صدق ، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين في الأصح وقيل بأربع وقيل بخمس ، ولم يتزوج - صلى الله عليه وسلم - عليها غيرها ، وكل أولاده منها الذكور والإناث ، [ ص: 374 ] إلا إبراهيم - عليه السلام - فإنه من سريته مارية القبطية ، فخديجة المذكورة أفضل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ( في السبق ) ) إلى الإسلام ، ومؤازرة خير الأنام ، قال شيخ الإسلام في جوابه للمحقق ابن القيم : خديجة كان تأثيرها في أول الإسلام ، وكانت تسلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتثبته وتبذل دونه مالها ، فأدركت غرة الإسلام ، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله ، وكانت نصرتها للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أعظم الحاجة ، فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها .

قال : وعائشة - رضي الله عنها - تأثيرها في آخر أوقات الإسلام ، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة ، وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها ، فلعائشة - رضي الله عنها - في آخر الإسلام من حمل الدين وتبليغه إلى الأمة ، وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها ما تميزت به عن غيرها . وقال المحقق في كتابه بدائع الفوائد : الخلاف في كون عائشة - رضي الله عنها - أفضل من فاطمة - عليها السلام - أو فاطمة أفضل إذا حرر محل التفضيل لا يستقيم ، أي الخلاف .

فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص ، لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب ، لا بمجرد أعمال الجوارح ، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملا بجوارحه ، والآخر أرفع درجة منه في الجنة ، وإن أريد بالتفضيل التفضيل بالعلم فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة ، وأدت من العلم ما لم يؤد غيرها ، واحتاج إلى علمها خواص الأمة وعامتها ، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل ، فإنها بضعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك اختصاص لم يشاركها فيه غير إخوتها ، وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة نساء الأمة ، وإذا تبينت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل ، وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات الفضل ، ولم يوازن بينها فيبخس الحق ، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم ، قال : وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل ، فأجاب فيها بالتفصيل الشافي ، وإلى هذا التفصيل أشرنا بقولنا ( ( فافهم ) ) فهم تحقيق وإذعان وتدقيق وإتقان [ ص: 375 ] ( ( نكتة النتيجة ) ) أي أثر فائدة الخلاف ، فإن النكتة أثر قليل كالنقطة شبه الأثر الذي يكون في المرآة والسيف ، ومنه حديث الجمعة ، فإذا فيها نكتة سوداء أي أثر قليل كالنقطة شبه الوسخ وأصله من النكت بالحصى ، ونكت التراب والأرض بالقضيب ، والنتيجة المراد بها هنا الحكم المتولد من القضيتين بالتفصيل في التفضيل ، وأصله من نتجت الناقة إذا ولدت فهي منتوجة ، وأنتجت إذا حملت فهي نتوج ، ولا يقال منتج ، ونتجت الناقة أنتجها إذا ولدتها ، والحكم الناتج مما نحن فيه أن خديجة أفضل بحسب السبق والمؤازرة وإنفاقها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتسليته وحمل المشاق بسببه ونحو ذلك ، وعائشة أفضل بسبب تحملها للعلوم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنها أحد المكثرين ، ونشرها لسنته - صلى الله عليه وسلم - ونفعها للأمة ، فإنها كانت عالمة فقيهة ، فصيحة فاضلة ، كثيرة الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عارفة بعلوم العرب وأشعارها ، وفضائلها ومناقبها كثيرة لا تحصى ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها ، وتفضيلها على سائر زوجاته - صلى الله عليه وسلم - مما لا يخفى .

قال الإمام المحقق ابن القيم في جلاء الأفهام : ومن خصائص خديجة - رضي الله عنها - أن الله - سبحانه وتعالى - بعث إليها السلام مع جبريل ، فبلغها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب . ورواه مسلم أيضا ، وهذا لعمر الله خاصة لم تكن لسواها ، وأما عائشة - رضي الله عنها - فإن جبريل سلم عليها على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخرج البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما : " يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام " . فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته . قالت : وهو يرى ما لا أرى .

قال ابن القيم : من خواص خديجة - رضي الله عنها - أنها لم تسؤه قط ، ولم تغاضبه ، ولم ينلها منه إيلاء ولا عتب قط ولا هجر ، وكفى بهذه [ ص: 376 ] منقبة ، ومن خواصها أنها أول امرأة آمنت بالله من هذه الأمة .

ومن خصائص عائشة - رضي الله عنها - أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكرا غيرها ، وأنها كانت ينزل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في لحافها ، ولما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها فخيرها وقال لها : " فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك " . فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . فاستن بها بقية أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وقلن كما قالت ، ومن أعظم خصائصها أنها كانت أحب أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، كما ثبت عنه ذلك في الصحاح والمسانيد والسنن ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . رواه البخاري ومسلم وغيرهما .

ومن أعظم خصائصها أن الله تعالى برأها مما رماها به أهل الإفك ، وأنزل في براءتها وحيا يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة ، وشهد لها أنها من الطيبات ، فلله من حصان عظمت فضائلها ، وجلت مناقبها ، ورسخت قدمها في الدين ، وعظم شأنها عند سائر المسلمين ، واحتاج لعلمها أئمة الصحابة ، وشهد لها أهل التحقيق بالتقدم والإصابة ، فقد أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : ما أشكل علينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وأخرج الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - وصححه أن رجلا نال من عائشة - رضي الله عنها - عند عمار بن ياسر - رضي الله عنه - فقال : اغرب مقبوحا منبوحا أتؤذي حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ وروى الترمذي عن عبد الله بن زياد الأسدي قال : سمعت عمار بن ياسر - رضي الله عنه - يقول : هي زوجته في الدنيا والآخرة . - يعني عائشة رضي الله عنها - . وقال : حديث حسن صحيح . ومناقبها كثيرة ، وفضائلها غزيرة رضي الله عنها ، وعن سائر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية