الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 193 ] قالوا حديث يكذبه النظر والخبر .

        20 - الصلاة عند طلوع الشمس .

        قالوا : رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الشمس تطلع من بين قرني شيطان فلا تصلوا لطلوعها قالوا : فجعلتم للشيطان قرونا تبلغ السماء ، وجعلتم الشمس التي هي مثل الأرض مرات تجري بين قرنيه ، وأنتم مع هذا تزعمون أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فهو في هذه الحال ألطف من كل شيء ، وهو في تلك الحال أعظم من كل شيء ، وجعلتم علة ترك الصلاة في وقت طلوع الشمس طلوعها من بين قرنيه ، وما على المصلي لله تعالى إذا جرت الشمس بين قرني الشيطان وما في هذا مما يمنع من الصلاة لله تعالى ؟ .

        قال أبو محمد : ونحن نقول إن إنكارهم لهذا الحديث إن كان من أجل أنهم لا يؤمنون بخلق الشياطين والجن ، وبأن الله تعالى جعل في [ ص: 194 ] تركيبها أن تتحول من حال إلى حال ، فتتمثل مرة في صورة شيخ ومرة في صورة شاب ، ومرة في مثال نار ومرة في مثال كلب ومرة في مثال جان ، ومرة تصل إلى السماء ومرة تصل إلى القلب ومرة تجري مجرى الدم ، فهؤلاء مكذبون بالقرآن وبما تواطأت عليه الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء المتقدمين وكتب الله تعالى المتقدمة والأمم الخالية .

        لأن الله تعالى قد أخبرنا في كتابه أن الشياطين يقعدون من السماء مقاعد للسمع وأنهم يرمون بالنجوم وأخبرنا الله تعالى عن الشيطان أنه قال : ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وهو لا يظهر لنا .

        فكيف يأمرنا بهذه الأشياء لولا أنه يصل إلى القلوب بالسلطان الذي جعله الله تعالى له ، فيوسوس بذلك ويزين ويمني ، كما قال الله - جل وعز - وكما روي في الحديث أنه رئي مرة في صورة شيخ نجدي ومرة في صورة ضفدع ومرة في صورة جان .

        وقد سمى الله تعالى الجن رجالا كما سمانا رجالا فقال تعالى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن وقال في الحور العين لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فدل ذلك على أن الجن تطمث كما يطمث الإنس ، والطمث الوطء بالتدمية .

        [ ص: 195 ] قال أبو محمد : ونحن لم نرد في هذا الكتاب أن نرد على الزنادقة ولا المكذبين بآيات الله - عز وجل - ورسله وإنما كان غرضنا الرد على من ادعى على الحديث التناقض والاختلاف واستحالة المعنى من المنتسبين إلى المسلمين ، وإن كان إنكاره لهذا الحديث لأنه رآه لا يقوم في وهمه ، ولأنه لا معنى لترك الصلاة من أجل أن الشمس تطلع بين قرني شيطان ، فنحن نريه المعنى حتى يتصور في وهمه له بإذن الله تعالى ويحسن عنده ولا يمتنع على نظره .

        وإنما أمرنا بترك الصلاة مع طلوع الشمس ، لأنه الوقت الذي كانت فيه عبدة الشمس يسجدون فيه للشمس ، وقد درج كثير من الأمم السالفة على عبادة الشمس والسجود لها ، فمن ذلك ما قص الله تبارك وتعالى علينا في نبأ ملكة سبأ ، أن الهدهد قال لسليمان - عليه السلام - عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم وكان في العرب قوم يعبدون الشمس ويعظمونها ويسمونها الإلاهة ، قال الأعشى : .


        فلم أذكر الرهب حتى انفتلت قبيل الإلاهة منها قريبا

        يعني الشمس ، وكان بعض القراء يقرأ أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك يريد : ويذرك والشمس التي تعبد ، فكره لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي في الوقت الذي يسجد فيه عبدة الشمس للشمس .

        [ ص: 196 ] وأعلمنا أن الشياطين حينئذ أو أن إبليس في ذلك الوقت في جهة مطلع الشمس فهم يسجدون له بسجودهم للشمس ، ويؤمونه . ولم يرد - عليه السلام - بالقرن ما تصوروا في أنفسهم من قرون البقر وقرون الشاء ، وإنما القرن هاهنا حرف الرأس وللرأس قرنان أي حرفان وجانبان ، ولا أرى القرن الذي يطلع في ذلك الموضع سمي قرنا إلا باسم موضعه ، كما تسمي العرب الشيء باسم ما كان له موضعا أو سببا فيقولون : رفع عقيرته ، يريدون صوته ؛ لأن رجلا قطعت رجله فرفعها واستغاث من أجلها ، فقيل لمن رفع صوته رفع عقيرته . ومثل هذا كثير في كلام العرب .

        وكذلك قوله في المشرق : " من هاهنا يطلع قرن الشيطان " لا يريد به ما يسبق إلى وهم السامع من قرون البقر ، وإنما يريد من هاهنا يطلع رأس الشيطان ، وكان وهب بن منبه يقول في ذي القرنين : إنه رجل من أهل الإسكندرية واسمه الإسكندروس ، وأنه كان حلم حلما رأى فيه أنه دنا من الشمس ، حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها ، فقص رؤياه على قومه فسموه : ذا القرنين .

        وأراد بأخذه بقرنيها أنه أخذ بجانبيها ، والقرون أيضا خصل الشعر كل خصلة قرن ، ولذلك قيل للروم ذات القرون ، يراد أنهم يطولون الشعور فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمنا أن الشيطان في وقت طلوع الشمس ، وعند سجود عبدتها لها مائل مع الشمس ، فالشمس تجري من قبل رأسه ، فأمرنا أن لا نصلي في هذا الوقت الذي يكفر فيه هؤلاء ويصلون للشمس وللشيطان .

        قال ابن قتيبة : وهذا أمر مغيب عنا ، لا نعلم منه إلا ما علمنا . [ ص: 197 ] والذي أخبرتك به شيء يحتمله التأويل ويباعده عن الشناعة والله أعلم .

        ولم يأت أهل التكذيب بهذا وأشباهه إلا لردهم الغائب عنهم إلى الحاضر عندهم ، وحملهم الأشياء على ما يعرفون من أنفسهم ومن الحيوان والموات ، واستعمالهم حكم ذوي الجثث في الروحانيين ، فإذا سمعوا بملائكة على كواهلها العرش وأقدامها في الأرض السفلى استوحشوا من ذلك لمخالفته ما شاهدوا ، وقالوا : كيف تخرق جثث هؤلاء السماوات ، وما بينهما والأرضين وما فوقها ، من غير أن نرى لذلك أثرا ؟ .

        وكيف يكون خلق له هذه العظمة وكيف تكون أرواحا ولها كواهل وأقدار ، وإذا سمعوا بأن جبريل - عليه السلام - مرة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي ومرة في صورة دحية الكلبي ومرة في صورة شاب ومرة سد بجناحيه ما بين المشرق والمغرب ، قالوا كيف يتحول من صورة إلى صورة ؟ وكيف يكون مرة في غاية الصغر ومرة في غاية الكبر من غير أن يزاد في جسمه ولا جثته وأعراضه ؟ لأنهم لا يعاينون إلا ما كان كذلك ، وإذا سمعوا بأن الشيطان يصل إلى قلب ابن آدم حتى يوسوس له ويخنس . قالوا : من أين يدخل ؟ وهل يجتمع روحان في جسم ؟ وكيف يجري مجرى الدم ؟ .

        قال أبو محمد : ولو اعتبروا ما غاب عنهم بما رأوه من قدرة الله - جل وعز - لعلموا أن الذي قدر على أن يفجر مياه الأرض كلها إلى البحر ، [ ص: 198 ] منذ خلق الله الأرض وما عليها ، فهي تفضي إليه من غير أن يزيد فيه أو ينقص منه . ولو جعل لنهر منها مثل دجلة أو الفرات أو النيل سبيل إلى ما على وجه الأرض من المدائن والقرى والعمارات والخراب شهرا ، لم يبق على ظهرها شيء إلا هلك ، هو الذي قدر على ما أنكروا وأن الذي قدر أن يحرك هذه الأرض على عظمها وكثافتها وبحارها ، وأطوادها وأنهارها حتى تتصدع الجبال ، وحتى تغيض المياه وحتى ينتقل جبل من مكان إلى مكان ، هو الذي لطف لما قدر .

        وأن الذي وسع إنسان العين مع صغره وضعفه لإدراك نصف الفلك على عظمه ، حتى رأى النجم من المشرق ورقيبه من المغرب وما بينهما ، وحتى خرق من الجو مسيرة خمسمائة عام ، هو الذي خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه ، مسيرة خمسمائة عام .

        فهل ما أنكر إلا بمنزلة ما عرف ؟ وهل ما رأى إلا بمنزلة ما لم يره ؟ فتعالى الله أحسن الخالقين .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية