الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 446 ] المسألة التاسعة

              سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور [ ص: 447 ] أحدها : ثناء الله عليهم من غير مثنوية ، ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها ; كقوله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] وقوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم ، وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا ، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى .

              ولا يقال : إن هذا عام في الأمة ; فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول : " أولا " ليس كذلك ، بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ، ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر [ ص: 448 ] " وثانيا " على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب ; فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهم المباشرون للوحي . " وثالثا " أنهم أولى بالدخول من غيرهم ; إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم ; فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح .

              وأيضا ; فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم ، فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة ، بخلاف غيرهم ; فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته ، وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم ، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير [ ص: 449 ] أمة بإطلاق ، وأنهم وسط أي عدول بإطلاق ، وإذا كان كذلك ; فقولهم معتبر ، وعملهم مقتدى به ، وهكذا سائر الآيات التي جاءت بمدحهم ; كقوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية [ الحشر : 8 9 ] وأشباه ذلك .

              والثاني : ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم ، وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ .

              وقوله : تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي [ ص: 450 ] وعنه أنه قال : أصحابي مثل الملح ، لا يصلح الطعام إلا به [ ص: 451 ] وعنه أيضا : إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليا ; فجعلهم خير أصحابي ، وفي أصحابي كلهم خير [ ص: 452 ] ويروى في بعض الأخبار : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلى غير ذلك مما في معناه [ ص: 453 ] [ ص: 454 ] [ ص: 455 ] [ ص: 456 ] والثالث : أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل ; فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا ، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا ، وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا ، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة [ ص: 457 ] وهذه الآراء وإن ترجح عند العلماء خلافها ; ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المعتمد في المسألة ، وذلك أن السلف والخلف من التابعين ، ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ، ويتكثرون بموافقتهم ، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين ، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر من ذهب إليها من الصحابة ، وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم ، وقوة مآخذهم دون غيرهم ، وكبر شأنهم في الشريعة ، وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلا عن النظر معهم فيما نظروا فيه ، وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل أن يجتهد لا يمنع من تقليد [ ص: 458 ] الصحابة ، ويمنع في غيره ، وهو المنقول عنه في الصحابي : " كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته ، ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم ، وأيضا فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لا بد من ذكر بعضه .

              فعن سعيد بن جبير أنه قال : ما لم يعرفه البدريون ; فليس من الدين [ ص: 459 ] وعن الحسن وقد ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ; فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم وعن إبراهيم قال : لم يدخر لكم شيء خبئ عن القوم لفضل عندكم .

              وعن حذيفة ; أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء ، وخذوا طريق من قبلكم ; فلعمري لئن اتبعتموه فقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا .

              وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسيا ; فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، [ ص: 460 ] وأحسنها حالا ، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ; فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ; فإنهم كانوا على الهدى المستقيم .

              وقال علي : إياكم والاستنان بالرجال ثم قال : فإن كنتم لا بد فاعلين ; فبالأموات لا بالأحياء وهو نهي للعلماء لا للعوام .

              ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز ; قال : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، من عمل بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا وفي رواية بعد قوله : وقوة على دين الله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ، ولا النظر في رأي [ ص: 461 ] خالفها ، من اهتدى بها مهتد الحديث ، وكان مالك يعجبه كلامه جدا .

              وعن حذيفة قال : اتبعوا آثارنا ; فإن أصبتم فقد سبقتم سبقا بينا ، وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالا بعيدا .

              وعن ابن مسعود نحوه ; فقال : " اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا ; فقد كفيتم " وعنه أنه مر برجل يقص في المسجد ويقول : " سبحوا عشرا وهللوا عشرا فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل ! بل هذه بل هذه [ ص: 462 ] يعني : أضل .

              والآثار في هذا المعنى يكثر إيرادها ، وحسبك من ذلك دليلا مستقلا وهو : الرابع : ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم ، وأن من أحبهم فقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام ، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط ; إذ لا مزية [ ص: 463 ] في ذلك وإنما هو لشدة متابعتهم له ، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته ، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة ، وتجعل سيرته قبلة .

              ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستن بسنتهم فجعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك ; فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله ، ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم ، وجعلهم قدوة أو من اتبعهم ، رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون [ المجادلة : 22

              التالي السابق


              الخدمات العلمية