الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فقه التوسط (مقاربة لتقعيد وضبط الوسطية)

الدكتور / نوار بن الشلي

اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة

" عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال: «عليكم بالسـبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسـنة ذكر الله في نفسـه فاقشعر جلده من خشـية الله إلا كان مثله كمثل شـجرة قد يبس ورقـها فهي كذلك حتى أصـابتها ريح شـديدة، فتحات ورقها إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات تلك الشـجرة ورقها، وإن اقتصـادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسـنة، فانظروا أن يكون علمكم، إن كان اجتهادا واقتصادا، أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم " [1] . " وقال ابن مسعود : الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة " [2] .. وقال الحسن: «عمل قليل في سنة، خير من عمل كثير في بدعة» [3] .

وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إلى عمر بحال بلده وكثرة لصوصه: هل يأخذهم بالظنة أو يحملهم على البينة وما جرت عليه السنة؟ فكتب إليه عمر: خذهم بالبينة وما جرت عليه السـنة، فإن لم يصـلحهم الحق فلا أصلحهم الله [4] . [ ص: 114 ] وكان الفضيل بن عياض يقول: «عمل قليل في سنة، خير من عمل كثير في بدعة» [5] .

قال ابن تيمية : «.. وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسـنتهم، وكذلك " قال عبد الله بن مسعود : الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة " ...» [6] . والكلام نفيس وارد في شأن جعل مباح أو مستحب شعارا على طائفة حتى يعتقدونه واجبا.

قال ابن القيم ، رحمه الله: «فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة» [7] . ويشرح الاقتصاد وأنه يفترق عن التقصير، كما قد يتوهم، فيقول: إن «الاقتصاد: هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وله طرفان وهما ضدان له، تقصير ومجاوزة، فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين ... . والدين كله بين هذين الطرفين، بل الإسلام قصد بين الملل والسنة، قصد بين البدع ودين الله، بين الغالي فيه والجافي عنه» [8] .

وقال في موضع آخر مبينا منهج السلف القائم على العدل والوسط:

«والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرا، وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة، فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية [ ص: 115 ] للبدعة، وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام به، وإن رأى فيه حرصا على السنة، وشدة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلا له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر. وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة ، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.. وقال بعض السلف: «ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط. ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصان» [9] .

وتمحيضه الفقه للاقتصاد في الدين هو ما نلمسه أيضا في تعليق مالك ، رحمه الله، على وصية الخليفة إياه حين طلب إليه وضع مصنفه على أن يجتنب فيه: «تشديد ابن عمر ، ورخص ابن عباس ، وشواذ ابن مسعود » فقد علق قائلا: «فخرجت من عنده فقيها» .

قال الشـيخ محمد الغزالي شـارحا قول جعفر الصادق ، رحمه الله: «إياك أن تعمل برأيك شـيئا»: «الرأي الذي ينهي جعفر الصادق عن العمل به هو الهوى والابتداع، واستحداث ما لا أصل له في دين الله. ولا خلاف [ ص: 116 ] بين العلماء في أن التعبد المقبول أساسه الاتباع الدقيق وتحري مرضاة الله ورسوله. ومن حسن الإيمان أن يتعرف المرء أولا ماذا قال الدين؟ قبل أن يتقدم بأي اقتراح في أية قضية!!! فإذا كان هناك توجيه لله ورسوله فلا كلام لأحد. وذلك بعض ما يوحـي به قـوله، عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم ) (الحجرات:1)

فليؤخر الإنسان نفسـه ورأيه حتى يتبين ما هنالك من توجيهات السـماء. فإذا ظهر أن هنالك أمرا أو نهيا مال إليه بقلبه وعقله، واطرح ما عنده لفوره، وذلك لقـول رسـول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن أحـدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»، وهذا سر قول جعفر الصادق: «إياك أن تعمل برأيك شيئا».

وهناك عباد جهال لهم نيات حسنة ولديهم حماسة في إرضاء الله ورسوله، بيد أنهم بما يألفون في أنفسهم من طيبة وصدق، يتجوزون في فعل أشياء وترك أشياء على نحو يخالف المأثور من كتاب الله وسنة رسوله... وهذا مسلك طائش، بل قد ينتهي بالمروق من الدين، والاعتداء على حدوده وصد الناس عن قبوله.

وكم من عـابد أحمق فعل بالإسـلام ما فعلته الدبة بصـاحبها... إنه لا بد من معرفة أصـيلة بالدين حتى يصح العمل به وله. وفي الحديث: ( فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) [10] [11] . [ ص: 117 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية