الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إن الدين عند الله الإسلام ) أي : الملة والشرع ، والمعنى : إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر . قرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة ، وقرأ ابن عباس ، والكسائي ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني : أن ، بالفتح ، وتقدمت قراءة ابن عباس : شهد الله إنه ، بكسر الهمزة ، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف ، وهي مؤكدة للجملة الأولى . قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد ؟ قلت : فائدته أن قوله : لا إله إلا هو : توحيد ، وقوله : قائما بالقسط ، تعديل ، فإذا أردفه قوله : إن الدين عند الله الإسلام ، فقد أذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين ، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه ، أو ما يؤدي إليه ، كإجازة الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دين لله الذي هو الإسلام ، وهذا بين جلي كما ترى ، انتهى كلامه . وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية ، وقولهم : إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى . وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب : أنه ، وأن ، فقال أبو علي الفارسي : إن شئت جعلته من بدل الشيء من [ ص: 408 ] الشيء وهو هو ، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل ، وهو هو في المعنى ؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال ، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل .

وقال : وإن شئت جعلته بدلا من القسط ، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل ، فيكون أيضا من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة . انتهت تخريجات أبي علي ، وهو معتزلي ، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه لا إله إلا هو ، خرجه غيره أيضا وليس بجيد ; لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي مثله في كلام العرب ، وهو : عرف زيد أنه لا شجاع إلا هو ، وبنو تميم ، وبنو دارم ملاقيا للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي ، إن الخصلة الحميدة هي البسالة . وتقريب هذا المثال : ضرب زيد عائشة ، والعمران حنقا أختك . فحنقا : حال من زيد ، وأختك : بدل من عائشة ، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف ، وهو لا يجوز . وبالحال لغير المبدل منه ، وهو لا يجوز ، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل . وخرجها الطبري على حذف حرف العطف ، التقدير : وأن الدين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه ، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفين [ ص: 409 ] المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية ، وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو : أكل زيد خبزا وعمرو وسمكا . وأصل التركيب : أكل زيد وعمرو خبزا وسمكا . فإن فصلنا بين قولك : وعمرو ، وبين قولك : وسمكا ، يحصل شنع التركيب ، وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح . وقال الزمخشري : وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بيانا صريحا ، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل انتهى . وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء . وأما قراءة ابن عباس فخرج على أن الدين عند الله الإسلام ؛ هو معمول شهد ، ويكون في الكلام اعتراضان : أحدهما بين المعطوف عليه والمعطوف وهو ( أنه لا إله إلا هو ) والثاني : بين المعطوف والحال ، وبين المفعول لـ " شهد " وهو ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) وإذا أعربنا : العزيز خبر مبتدأ محذوف ، كان ذلك ثلاث اعتراضات ، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب ، وإنما حمل على ذلك العجمة ، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب ، وحفظ أشعارها .

وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب : أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لا بد من الاطلاع على كلام العرب ، والتطبع بطباعها ، والاستكثار من ذلك ، والذي خرجت عليه قراءة : أن الدين ، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول : للحكيم ، على إسقاط حرف الجر ، أي : بأن ، لأن الحكيم فعيل للمبالغة : كالعليم والسميع والخبير ، كما قال تعالى ( من لدن حكيم خبير ) وقال ( من لدن حكيم عليم ) والتقدير : لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدين عند الله الإسلام . ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية ، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم ، حكم أن الدين المقبول عند الله هو الإسلام ، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه ، ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) وعدل عن صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ، ولمناسبة العزيز ، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع إن الدين عنده هو الإسلام ، إذ حكم في كل شريعة بذلك . فإن قلت : لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، وهلا جعلته فعيلا بمعنى مفعل ، فيكون معناه المحكم ، كما قالوا في أليم : إنه بمعنى مؤلم ، وفي سميع من قول الشاعر :


أمن ريحانة الداعي السميع



أي المسمع ؟

فالجواب : إنا لا نسلم أن فعيلا يأتي بمعنى مفعل ، وقد يؤول أليم وسميع ، على غير مفعل ، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور [ ص: 410 ] والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس ، وأما فعيل المحول من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جدا ، خارج عن الحصر : كعليم ، وسميع ، وقدير ، وخبير ، وحفيظ ، في ألفاظ لا تحصى ، وأيضا فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلا أنه محول للمبالغة من حاكم ، ألا ترى أنه لما سمع قارئا يقرأ ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم ) أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق : والله غفور رحيم فقيل له التلاوة : ( والله عزيز حكيم ) فقال : هكذا يكون عز فحكم ، ففهم من حكيم أنه محول للمبالغة من حاكم ، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه ، وهذا تخريج سهل سائغ جدا ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات العقدة التي ينزه كتاب الله عنها . وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول : ولا نجعل أن الدين معمولا : لـ " شهد " ، كما فهموا ، وأن : أنه لا إله إلا هو ، اعتراض ، وأنه بين المعطوف والحال وبين : أن الدين ، اعتراض آخر ، أو اعتراضان ، بل نقول : معمول شهد ، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن " شهد " ، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراء لها مجرى القول ، أو نقول : إنه معمولها ، وعلقت : ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتا ، فإنك تقول : شهدت إن زيدا لمنطلق ، فيعلق بإن مع وجود اللام ; لأنه لو لم تكن اللام لفتحت إن فقلت : شهدت أن زيدا منطلق ، فمن قرأ بفتح : أنه ، فإنه لم ينو التعليق ، ومن كسر فإنه نوى التعليق . ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا .

والإسلام هنا الإيمان والطاعات ، قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال . وقرأ عبد الله : إن الدين عند الله الحنيفية . قال ابن الأنباري : ولا يخفى على ذي تمييز ، أن هذا كلام من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جهة التفسير ، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات ، وقد تقدم الكلام في الإسلام والإيمان : أهما شيء واحد أم هما مختلفان ؟ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل .

( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ) أي : اليهود والنصارى ، أو هما والمجوس ، أقوال ثلاثة : فعلى أنهم اليهود ، وهو قول الربيع بن أنس ، الذين اختلفوا في التوراة . قال : لما حضرت موسى - عليه السلام - الوفاة ، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع ، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم . وقيل : الذين اختلفوا في نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : بعث إلى العرب خاصة ، وقال بعضهم : ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق . وعلى أنهم النصارى ، وهو قول محمد بن جعفر بن الزبير ، فالذي اختلفوا فيه : [ ص: 411 ] دينهم ، أو أمر عيسى ، أو دين الإسلام . ثلاثة أقوال . وقال الزمخشري : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد ، والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فثلثت النصارى ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أميون ، ونحن أهل كتاب ، وهذا تجوير لله تعالى انتهى . ثم قال : وقيل : اختلافهم في نبوة محمد - عليه السلام - حيث آمن به بعض وكفر بعض ، وقيل : اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ، ومنهم من آمن بعيسى انتهى . والذي يظهر أن اللفظ عام في ( الذين أوتوا الكتاب ) وأن المختلف فيه هو الإسلام ، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام ، ثم قال : ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ) أي : في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان .

( إلا من بعد ما جاءهم العلم ) الذي هو سبب لاتباع الإسلام ، والاتفاق على اعتقاده ، والعمل به ، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد ، والاستئثار بالرياسة ، وذهاب كل منهم مذهبا يخالف الإسلام حتى يصير رأسا يتبع فيه ; فكانوا ممن ضل على علم . وقد تقدم ما يشبه هذا من قوله ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات ) . ( بغيا بينهم ) وإعراب : بغيا ، فإنه أتى بعد إلا شيئان ظاهرهما أنهما مستثنيان ، وتخريج ذلك : فأغنى عن إعادته هنا .

( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) هذا عام في كل كافر بآيات الله ، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب ، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم . وآياته هنا قيل : حججه ، وقيل : التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : القرآن ، وقال الماتريدي : أي : من المختلفين . وتقدم تفسير : سريع الحساب ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على اسم الشرط محذوف تقديره : سريع الحساب له .

التالي السابق


الخدمات العلمية