الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4351 ) فصل : في الحمى ، ومعناه أن يحمي أرضا من الموات ، يمنع الناس رعي ما فيها من الكلأ ، ليختص بها دونهم . وكانت العرب في الجاهلية تعرف ذلك ، فكان منهم من إذا انتجع بلدا أوفى بكلب على نشز ، ثم استعواه . ووقف له من كل ناحية من يسمع صوته بالعواء ، فحيثما انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ، ويرعى مع العامة فيما سواه . فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ; لما فيه من التضييق على الناس ، ومنعهم من الانتفاع بشيء لهم فيه حق . وروى الصعب بن جثامة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا حمى إلا لله ولرسوله } . رواه أبو داود

                                                                                                                                            وقال : { الناس شركاء في ثلاث : الماء ، والنار ، والكلأ } رواه الخلال . وليس لأحد من الناس سوى الأئمة أن يحمي ; لما ذكرنا من الخبر والمعنى . فأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان له أن يحمي لنفسه وللمسلمين ; لقوله في الخبر : { لا حمى إلا لله ولرسوله } . لكنه لم يحم لنفسه شيئا ، وإنما حمى للمسلمين ، فقد روى ابن عمر ، قال : { حمى النبي صلى الله عليه وسلم النقيع لخيل المسلمين } . رواه أبو عبيد . والنقيع ، بالنون : موضع ينتقع فيه الماء ، فيكثر فيه الخصب ، لمكان ما يصير فيه من الماء

                                                                                                                                            وأما سائر أئمة المسلمين ، فليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئا ، ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ، ونعم الجزية ، وإبل الصدقة وضوال الناس التي يقوم الإمام بحفظها ، وماشية الضعيف من الناس ، على وجه لا يستضر به من سواه من الناس . وبهذا قال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي في صحيح قوليه ، وقال في الآخر : ليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي ; لقوله : { لا حمى إلا لله ولرسوله } . ولنا أن عمر وعثمان حميا ، واشتهر ذلك في الصحابة ، فلم ينكر عليهما ، فكان إجماعا

                                                                                                                                            وروى أبو عبيد ، بإسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، أحسبه عن أبيه ، قال : أتى أعرابي عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية ، وأسلمنا عليها في الإسلام ، علام تحميها ؟ فأطرق عمر ، وجعل ينفخ ، ويفتل شاربه ، وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ، ونفخ فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك ، فقال عمر : المال مال الله ، والعباد عباد الله ، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت شبرا من الأرض في شبر . وقال مالك : بلغني أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفا من الظهر . وعن أسلم ، قال : سمعت عمر يقول لهني حين استعمله على حمى الربذة : يا هني ، اضمم جناحك عن الناس ، واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة . وأدخل رب الصريمة والغنيمة ، ودعني من نعم ابن عوف ونعم ابن عفان ، فإنهما إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى نخل وزرع ، وإن هذا المسكين إن هلكت ماشيته ، جاء يصرخ : يا أمير المؤمنين . فالكلأ أهون علي أم غرم الذهب والورق ، إنها أرضهم قاتلوا عليها في الجاهلية ، وأسلموا عليها في الإسلام ، وإنهم ليرون أنا نظلمهم ، ولولا [ ص: 339 ] النعم التي يحمل عليها في سبيل الله ، ما حميت على الناس من بلادهم شيئا أبدا .

                                                                                                                                            وهذا إجماع منهم . ولأن ما كان لمصالح المسلمين ، قامت الأئمة فيه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما أطعم الله لنبي طعمة إلا جعلها طعمة لمن بعده }

                                                                                                                                            وأما الخبر فمخصوص ، وأما حماه لنفسه ، فيفارق حمى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ، لأن صلاحه يعود إلى صلاح المسلمين ، وما له كان يرده في المسلمين ، ففارق الأئمة في ذلك ، وساووه فيما كان صلاحا للمسلمين ، وليس لهم أن يحموا إلا قدرا لا يضيق به على المسلمين ويضر بهم ; لأنه إنما جاز لما فيه من المصلحة لما يحمى ، وليس من المصلحة إدخال الضرر على أكثر الناس .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية