الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ) الضمير في : حاجوك ، الظاهر أنه يعود على ( الذين أوتوا الكتاب ) وقال أبو مسلم : يعود على جميع الناس ، لقوله بعد ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ) وقيل : يعود على نصارى نجران ، قدموا المدينة للمحاجة . وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام ; لأنه السابق . وجواب الشرط هو : ( فقل أسلمت وجهي لله ) والمعنى : انقدت وأطعت وخضعت لله وحده ، وعبر بالوجه عن جميع ذاته ، لأن الوجه أشرف الأعضاء ، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع وقال المروزي ، وسبقه الفراء إلى معناه : معنى أسلمت وجهي ، أي : ديني ; لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل ، وجاء في التفسير أقوال : أقول لكم ، كما قال ابن نعيم : وقد أجمعتم على أنه محق ( قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) . وقال الزمخشري : وأسلمت وجهي ، أي : أخلصت نفسي وعملي لله وحده ، لم أجعل له شريكا بأن أعبده وأدعو إلها معه ، يعني أن ديني التوحيد ، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته ، كما ثبت عندي . وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ، ونحوه ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ) الآية ، فهو دفع للمجادلة انتهى .

وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معا ، إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ ، فيسوغ له ذلك . وقال الرازي : في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : الأول : أنه إعراض عن المحاجة ، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية ، فإن هذه السورة مدنية ، وذلك بإظهار بالمعجزات بالقرآن وغيره ، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله : ( الحي القيوم ) على فساد قول النصارى في إلهية عيسى ، وبقوله : ( نزل عليك الكتاب ) على صحة نبوته ، وذكر شبه القوم وأجاب عنها ، وذكر معجزات أخرى ، وهي ما شاهدوه يوم بدر ، وبين القول بالتوحيد بقوله : شهد الله . والطريق الثاني : أنه إظهار للدليل ، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة [ ص: 412 ] فكأنه قال : أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه ، والخلف فيما وراءه ، وعلى المدعي الإثبات . وأيضا كانوا معظمين إبراهيم - عليه السلام - وأنه كان محقا ، وقد أمر أن يتبع ملته ، وهنا أمر أن يقول كقوله ، فيكون هذا من باب الإلزام ، أي : أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق ، وهذا قاله أبو مسلم ، وأيضا لما تقدم أن الدين هو الإسلام ، قيل له : إن نازعوك فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل الإسلام ، وأيضا فالآية مناسبة لقولإبراهيم ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) أي : لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا وضارا وقادرا على جميع الأشياء ، وعيسى ليس كذلك ، وأيضا فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم - عليه السلام - إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين وروي هذا عن ابن عباس انتهى ما لخص من كلام الرازي . وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها . وفتح الياء من " وجهي " هنا ، وفي الأنعام نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون .

( ومن اتبعن ) قيل : من ، في موضع رفع ، وقيل : في موضع نصب على أنه مفعول معه ، وقيل : في موضع خفض عطفا على اسم الله . ومعناه : جعلت مقصدي بالإيمان به ، والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له ، والتحفي بتعلمه وصحته . فأما الرفع فعطفا على الفاعل في أسلمت ، قاله الزمخشري ، وبدأ به قال : وحسن للفاصل ، يعني أنه عطف على الضمير المتصل ، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا في الشعر على رأي البصريين . إلا أنه فصل بين الضمير والمعطوف ، فيحسن . وقاله ابن عطية أيضا ، وبدأ به . ولا يمكن حمله على ظاهره ; لأنه إذا عطف على الضمير في نحو : أكلت رغيفا وزيد ، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك ، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو - صلى الله عليه وسلم - وجهه لله ، وإنما المعنى : أنه - صلى الله عليه وسلم - أسلم وجهه لله ، وهم أسلموا وجوههم لله ، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول : أسلمت ، التقدير : ومن اتبعني وجهه . أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : وعمرو كذلك . أي : قضى نحبه . ومن الجهة التي امتنع عطف " ومن " ، على الضمير ، إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل يمتنع كون من ، منصوبا على أنه مفعول معه ، لأنك إذا قلت : أكلت رغيفا وعمرا ، أي : مع عمرو ، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري ، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال ، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية . وأثبت ياء اتبعني في الوصل أبو عمرو ، ونافع ، وحذفها الباقون ، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف ، ولأنها رأس آية كقوله : أكرمن و أهانن ، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر :


وهل يمنعني ارتياد البلا د من حذر الموت أن يأتين



[ ص: 413 ] ( وقل للذين أوتوا الكتاب ) هم : اليهود والنصارى باتفاق ( والأميين ) هم مشركو العرب ، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له . ( أأسلمتم ) تقدير في ضمنه الأمر . وقال الزجاج : تهديد . قال ابن عطية : وهذا أحسن ، لأن المعنى : أأسلمتم له أم لا ؟ وقال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم ؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة ، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته ، هل فهمتها لا أم لك ؟ ومنه قوله - عز وعلا : ( فهل أنتم منتهون ) بعدما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ; لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ، ولم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ، ما يضرب أسدادا بينه وبين الإذعان ، وكذلك في : هل فهمتها ؟ توبيخ بالبلادة وكلة القريحة ، وفي ( فهل أنتم منتهون ) بالتقاعد عن الانتهاء ، والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه انتهى كلامه . وهو حسن ، وأكثره من باب الخطابة .

( فإن أسلموا فقد اهتدوا ) أي : إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية ، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بـ " قد " الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى ، ومن الظلمة إلى النور انتهى .

( وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ) أي : هم لا يضرونك بتوليهم ، وما عليك أنت إلا تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم ، وانتظامهم في عبادة الله وحده ، وقيل : إنها آية موادعة منسوخة بآية السيف ، وتحتاج إلى معرفة تاريخ النزول ، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات ، وهو وفود وفد نجران ، فيكون المعنى : فإنما عليك البلاغ بقتال وغيره .

( والله بصير بالعباد ) . فيه : وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام ، ووعد بالخير لمن أسلم ; إذ معناه : إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية