الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة أن لا تتعلق في السير بدليل . ولا تشوب إجابتك بعوض . ولا تقف في شهودك على رسم .

[ ص: 330 ] هذه ثلاثة أمور اشتملت عليها هذه الدرجة .

أما عدم تعلقه في السير بدليل : فقد بين مراده به في آخر الباب ، إذ يقول : وفي علم الخصوص : من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم يحل له دعوى الفتوة أبدا .

وهذا موضع عظيم يحتاج إلى تبيين وتقدير .

والمراد : أن السائر إلى الله يسير على قدم اليقين ، وطريق البصيرة والمشاهدة . فوقوفه مع الدليل : دليل على أنه لم يشم رائحة اليقين . والمراد بهذا : أن المعرفة عندهم ضرورية لا استدلالية . وهذا هو الصواب . ولهذا لم تدع الرسل قط الأمم إلى الإقرار بالصانع سبحانه وتعالى ، وإنما دعوهم إلى عبادته وتوحيده . وخاطبوهم خطاب من لا شبهة عنده قط في الإقرار بالله تعالى . ولا هو محتاج إلى الاستدلال عليه . ولهذا قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض وكيف يصح الاستدلال على مدلول هو أظهر من دليله ؟ حتى قال بعضهم : كيف أطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء ؟ فتقيد السائر بالدليل وتوقفه عليه ، دليل على عدم يقينه . بل إنما يتقيد بالدليل الموصل له إلى المطلوب بعد معرفته به . فإنه يحتاج - بعد معرفته - إلى دليل يوصله إليه ، ويدله على طريق الوصول إليه . وهذا الدليل : هو الرسول صلى الله عليه وسلم . فهو موقوف عليه يتقيد به . لا يخطو خطوة إلا وراءه .

وأيضا فالقوم يشيرون إلى الكشف ، ومشاهدة الحقيقة . وهذا لا يمكن طلبه بالدليل أصلا . ولا يقال : ما الدليل على حصول هذا ؟ وإنما يحصل بالسلوك في منازل السير ، وقطعها منزلة منزلة ، حتى يصل إلى المطلوب . فوصوله إليه بالسير لا بالاستدلال ، بخلاف وصول المستدل . فإنه إنما يصل إلى العلم ، ومطلوب القوم وراءه . والعلم منزلة من منازلهم - كما سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى - ولهذا يسمون أصحاب الاستدلال : أصحاب القال . وأصحاب الكشف : أصحاب الحال . والقوم عاملون على الكشف الذي يحصل نور العيان ، لا على العلم الذي ينال بالاستدلال والبرهان .

وهذا موضع غلط واشتباه . فإن الدليل في هذا المقام شرط ، وكذلك العلم . وهو باب لا بد من دخوله إلى المطلوب ، ولا يوصل إلى المطلوب إلا من بابه ، كما قال تعالى : [ ص: 331 ] وأتوا البيوت من أبوابها .

ثم إنه يخاف على من لا يقف مع الدليل ما هو أعظم الأمور وأشدها خطرا . وهو الانقطاع عن الطلب بالكلية ، والوصول إلى مجرد الخيال والمحال . فمن خرج عن الدليل : ضل سواء السبيل .

فإن قيل : تعلقه في المسير بالدليل : يفرق عليه عزمه وقلبه . فإن الدليل يفرق والمدلول يجمع . فالسالك يقصد الجمعية على المدلول . فما له ولتفرقة الدليل ؟

قيل : هذه البلية التي لأجلها أعرض من أعرض من السالكين عن العلم ونهى عنه . وجعلت علة في الطريق ، ووقع هذا من زمن الشيوخ القدماء العارفين فأنكروه غاية الإنكار . وتبرءوا منه ومن قائله . وأوصوا بالعلم . وأخبروا أن طريقهم مقيدة بالعلم . لا يفلح فيها من لم يتقيد بالعلم . و الجنيد كان من أشد الناس مبالغة في الوصية بالعلم ، وحثا لأصحابه عليه .

والتفرق في الدليل خير من الجمعية على الوهم والخيال . فإنه لا يعرف كون الجمعية حقا إلا بالدليل والعلم . فالدليل والعلم ضروريان للصادق . لا يستغني عنهما .

نعم يقينه ونور بصيرته وكشفه : يغنيه عن كثير من الأدلة التي يتكلفها المتكلفون ، وأرباب القال . فإنه مشغول عنها بما هو أهم منها . وهو الغاية المطلوبة .

مثاله : أن المتكلم يفني زمانه في تقرير حدوث العالم ، وإثبات وجود الصانع . وذلك أمر مفروغ منه عند السالك الصادق صاحب اليقين . فالذي يطلبه هذا بالاستدلال - الذي هو عرضة الشبه ، والأسئلة ، والإيرادات التي لا نهاية لها - هو كشف ويقين للسالك ، فتقيده في سلوكه بحال هذا المتكلم انقطاع ، وخروج عن الفتوة .

وهذا حق لا ينازع فيه عارف ، فترى المتكلم يبحث في الزمان والمكان ، والجواهر والأعراض ، والأكوان ، وهمته مقصورة عليها لا يعدوها ليصل منها إلى المكون وعبوديته . والسالك قد جاوزها إلى جمع القلب على المكون وعبوديته بمقتضى أسمائه وصفاته . لا يلتفت إلى غيره . ولا يشتغل قلبه بسواه .

فالمتكلم متفرق مشتغل في معرفة حقيقة الزمان والمكان . والعارف قد شح بالزمان أن يذهب ضائعا في غير السير إلى رب الزمان والمكان .

[ ص: 332 ] وبالجملة : فصاحب هذه الدرجة لا يتعلق في سيره بدليل . ولا يمكنه السير إلا خلف الدليل ، وكلاهما يجتمع في حقه . فهو لا يفتقر إلى دليل على وجود المطلوب . ولا يستغني طرفة عين عن دليل يوصله إلى المطلوب . فسير الصادق على البصيرة واليقين والكشف ، لا على النظر والاستدلال .

وأما قوله : ولا تشوب إجابتك بعوض .

أي تكون إجابتك لداعي الحق خالصة ، إجابة محبة ورغبة ، وطلب للمحبوب ذاته ، غير مشوبة بطلب غيره من الحظوظ والأعواض ، فإنه متى حصل لك حصل لك كل عوض وكل حظ به وكل قسم . كما في الأثر الإلهي : ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فإن وجدتني ، وجدت كل شيء . وإن فتك فاتك كل شيء . وأنا أحب إليك من كل شيء .

فمن أعرض عن طلب ما سوى الله ، ولم يشب طلبه له بعوض ، بل كان حبا له ، وإرادة خالصة لوجهه ، فهو في الحقيقة الذي يفوز بالأعواض والأقسام والحظوظ كلها . فإنه لما لم يجعلها غاية طلبه ، توفرت عليه في حصولها . وهو محمود مشكور مقرب . ولو كانت هي مطلوبة لنقصت عليه بحسب اشتغاله بطلبها وإرادتها عن طلب الرب تعالى لذاته وإرادته .

فهذا قلبه ممتلئ بها والحاصل له منها : نزر يسير . والعارف ليس قلبه متعلقا بها . وقد حصلت له كلها . فالزهد فيها لا يفيتكها ، بل هو عين حصولها . والزهد في الله هو الذي يفيتكه ويفيتك الحظوظ . وإذا كان لك أربعة عبيد . أحدهم : يريدك ولا يريد منك ، بل إرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك . والثاني : يريد منك ولا يريدك ، بل إرادته مقصورة على حظوظه منك . والثالث : يريدك ويريد منك . والرابع : لا يريدك ولا يريد منك . بل هو متعلق القلب ببعض عبيدك . فله يريد . ومنه يريد . فإن آثر العبيد عندك ، وأحبهم إليك ، وأقربهم منك منزلة ، والمخصوص من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيد الثلاثة - هو الأول . هكذا نحن عند الله سواء .

وأما قوله : ولا تقف في شهودك على رسم .

فيعني : أن لا يكون منك نظر إلى السوى عند الشهود ، كما تقدم مرارا .

وهذا عند القوم غير مكتسب . فإن الشهود إذا صح محا الرسوم ضرورة في نظر الشاهد . فلا حاجة إلى أن يشرط عليه عدم الوقوف عليها . والشهود الصحيح ماح لها بالذات . لكن أوله قد لا يستغني عن الكسب . ونهايته لا تقف على كسب .

قال : واعلم أن من أحوج عدوه إلى شفاعة ، ولم يخجل من المعذرة إليه : لم يشم [ ص: 333 ] رائحة الفتوة .

يعني أن العدو متى علم أنك متألم من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك ، ويشفع إليك شافعا يزيل ما في قلبك منه . فالفتوة كل الفتوة : أن لا تحوجه إلى الشفاعة ، بأن لا يظهر له منك عتب ولا تغير عما كان له منك قبل معاداته . ولا تطوي عنه بشرك ولا برك . وإذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفتوة نصيب .

ولا تستعظم هذا الخلق . فإن للفتيان ما هو أكبر منه . ولا تستصعبه . فإنه موجود في كثير من الشطار والعشراء الذين ليس لهم في حال المعرفة ولا في لسانها نصيب ، فأنت أيها العارف أولى به .

قال : وفي علم الخصوص : من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال : لم يحل له دعوى الفتوة أبدا .

كأنه يقول : إذا لم تحوج عدوك إلى العذر والشفاعة . ولم تكلفه طلب الاستدلال على صحة عذره ، فكيف تحوج وليك وحبيبك إلى أن يقيم لك الدليل على التوحيد والمعرفة ، ولا تشير إليه حتى يقيم لك دليلا على وجوده ووحدانيته ، وقدرته ومشيئته ؟ فأين هذا من درجة الفتوة ؟

وهل هذا إلا خلاف الفتوة من كل وجه ؟

ولو أن رجلا دعاك إلى داره . فقلت للرسول : لا آتي معك حتى تقيم لي الدليل على وجود من أرسلك ، وأنه مطاع ، وأنه أهل أن يغشى بابه . لكنت في دعوى الفتوة زنيما . فكيف بمن وجوده ، ووحدانيته ، وقدرته ، وربوبيته ، وإلهيته - أظهر من كل دليل تطلبه ؟ فما من دليل يستدل به ، إلا ووحدانية الله وكماله أظهر منه . فإقرار الفطر بالرب سبحانه خالق العالم : لم يوقفها عليه موقف .

ولم تحتج فيه إلى نظر واستدلال أفي الله شك فاطر السماوات والأرض . فأبعد الناس من درجة الفتوة : طالب الدليل على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية