nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50nindex.php?page=treesubj&link=19729_29693_29694_31784_18072_31107_30347_19995_29568_31037_32026_30175_30177_28977قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=51وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=54وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين
هذه الموجة بقية في مواجهة المشركين بحقيقة الرسالة ، وطبيعة الرسول ; بمناسبة طلبهم للخوارق - التي ذكرنا نماذج منها في الفقرة السابقة في هذا السياق - وبقية في تصحيح التصورات الجاهلية - والبشرية بصفة عامة - عن الرسالات والرسل ; بعدما عبثت بهذه التصورات جاهليات
العرب وغيرهم من الأمم حولهم ; فابتعدت بها عن حقيقة الرسالة وحقيقة النبوة ، وحقيقة الوحي ، وحقيقة الرسول ودخلت بها في خرافات وأساطير وأوهام وأضاليل ; حتى اختلطت النبوة بالسحر والكهانة ، واختلط الوحي بالجن والجنون أيضا !
وأصبح يطلب من النبي أن يتنبأ بالغيب ; وأن يأتي بالخوارق ; وأن يصنع ما عهد الناس أن يصنعه صاحب الجن والساحر ! . . ثم جاءت العقيدة الإسلامية لتقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق ، ولترد إلى التصور الإيماني وضوحه وبساطته وصدقه وواقعيته ، ولتخلص صورة النبوة وصورة النبي من تلك الخرافات والأساطير والأوهام والأضاليل ، التي شاعت في الجاهليات كلها . وكان أقربها إلى مشركي
العرب جاهليات أهل الكتاب من اليهود والنصارى على اختلاف الملل والنحل بينهم ، وكلها تشترك في تشويه صورة النبوة وصورة النبي أقبح تشويه !
[ ص: 1095 ] وبعد بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول ، وتقديمها للناس مبرأة من كل ما علق بصورة النبوة وصورة النبي من أوهام وأضاليل . يقدم القرآن عقيدته للناس مجردة من كل إغراء خارج عن طبيعتها ، ومن كل زينة زائدة عن حقيقتها . . فالرسول الذي يقدمه للناس بشر ، لا يملك خزائن الله ، ولا يعلم الغيب ، ولا يقول لهم : إني ملك . . وهو لا يتلقى إلا من ربه ، ولا يتبع إلا ما يوحى إليه منه . والذين يقبلون دعوته هم أكرم البشر عند الله ، وعليه أن يلزمهم ، وأن يهش لهم ، وأن يبلغهم ما كتبه الله لهم على نفسه من الرحمة والمغفرة .
كما أن عليه إنذار الذين تتحرك ضمائرهم من خشية الآخرة ; ليصلوا إلى مرتبة التقوى ، وفي هذا وذلك تنحصر وظيفته ، كما أنه في "البشرية " وفي "تلقي الوحي " تنحصر حقيقته . فتصح في التصورات حقيقته ووظيفته جميعا . . ثم إنه بهذا التصحيح ، وبهذا الإنذار ، تستبين سبيل المجرمين ، عند مفرق الطريق ، ويتضح الحق والباطل ، وينكشف الغموض والوهم حول طبيعة الرسول وحول حقيقة الرسالة ، كما ينكشف الغموض حول حقيقة الهدى وحقيقة الضلال ، وتتم المفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين في نور وفي يقين .
وفي ثنايا الإفصاح عن هذه الحقائق يعرض السياق جوانب من حقيقة الألوهية ، وعلاقة الرسول بها ، وعلاقة الناس جميعا - الطائعين منهم والعصاة - ويتحدث عن طبيعة الهدى وطبيعة الضلال عن هذه الحقيقة . فالهدى إليها بصر والضلال عنها عمى . والله كتب على نفسه الرحمة متمثلة في التوبة على عباده والمغفرة لما يرتكبونه من المعاصي في جهالة متى تابوا منها وأصلحوا بعدها . وهو يريد أن تستبين سبيل المجرمين ، فيؤمن من يؤمن عن بينة ، ويضل من يضل عن بينة ، ويتخذ الناس مواقفهم في وضوح لا تغشيه الأوهام والظنون . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50قل: لا أقول لكم: عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك. إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون . .
لقد كان المعاندون من
قريش يطلبون أن يأتيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية من الخوارق يصدقونه بها - وهم كانوا كما أسلفنا يعلمون صدقه ولا يشكون فيه - وتارة كانوا يطلبون أن تكون هذه الآية تحويل
الصفا والمروة ذهبا ! وتارة تكون إبعادهما عن
مكة ليصبح مكانهما خصبا مخضرا بالزروع والثمار ! وتارة تكون إنباءهم بما سيقع لهم من أحداث مغيبة ! وتارة تكون طلب إنزال ملك عليه ! وتارة تكون طلب كتاب مكتوب في قرطاس يرونه يتنزل عليه من السماء . . إلى آخر هذه المطالب التي يوارون وراءها تعنتهم وعنادهم !
ولكن هذه المطالب كلها إنما كانوا يصوغون فكرتها من تلك الأوهام والأساطير التي أحاطت بصورة النبوة وصورة النبي في الجاهليات من حولهم ، وأقربها إليهم أوهام أهل الكتاب وأساطيرهم حول النبوة ، بعدما انحرفوا عما جاءتهم به رسلهم من الحق الواضح في هذه الأمور . .
ولقد شاعت في الجاهليات المتنوعة صور من "النبوءات " الزائفة ، يدعيها "متنبئون " ويصدقها مخدوعون . . ومن بينها نبوءات السحر والكهانة والتنجيم والجنون ! حيث يدعي المتنبئون قدرتهم على العلم بالغيب ، والاتصال بالجن والأرواح ، وتسخير نواميس الطبيعة بالرقى والتعاويذ ، أو بالدعوات والصلوات ، أو بغيرها من الوسائل والأساليب . وتتفق كلها في الوهم والضلالة ، وتختلف بعد ذلك في النوع والشكل والمراسم والأساليب .
"فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء . ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة "بالأرباب ! " لا تطيع الكاهن ، ولكنها تلبي دعواته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه ، وترشده بالعلامات والأحلام ، ولا تلبي سائر
[ ص: 1096 ] الدعوات والصلوات ! ولكنهما - نبوءة السحر ونبوءة الكهانة - تخالفان نبوة الجذب والجنون المقدس . لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان ، ويريدان قصدا ما يطلبانه بالعزائم والصلوات ، ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره ، ينطلق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها ، ولعله لا يعيها . ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه ، ولحن رموزه وإشاراته . وقد كانوا في
اليونان يسمون المجذوب "مانتي""manti " ويسمون المفسر : "بروفيت " "prophet " أي المتكلم بالنيابة عن غيره . ومن هذه الكلمة نقل الأوربيون كلمة النبوة بجميع معانيها . وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون ، إلا أن يكون الكاهن متوليا للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب ، ومضامين رموزه وإشاراته . ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة . فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها ، والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث في أكثر الأحيان من آبائه وأجداده . وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة ; ولا يتوقف الجذب على هذه البيئة ، لأنه قد يعتري صاحبه في البرية ، كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد .
وقد كثر عدد الأنبياء في قبائل بني إسرائيل كثرة يفهم منها أنهم كانوا في أزمنتهم المتعاقبة يشبهون في العصور الحديثة أصحاب الأذكار ، ودراويش الطرق الصوفية ، لأنهم جاوزوا المئات في بعض العهود ، واصطنعوا من الرياضة في جماعاتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة الجذب تارة بتعذيب الجسد ، وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب .
جاء في كتاب
صموئيل الأول :
أن
شاول أرسل لأخذ
داود رسلا . . "فرأوا جماعة الأنبياء يتنبؤون ،
وشاول واقف بينهم رئيسا عليهم . فهبط روح الله على رسل
شاول ، فتنبؤوا هم أيضا . وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء . . . فخلع هو أيضا ثيابه ، وتنبأ هو أيضا أمام
صموئيل ، وانتزع عاريا ذلك النهار كله وكل الليل " . .
وجاء في كتاب
صموئيل كذلك :
" . . . أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة ، وأمامهم رباب ودف وناي وعود ، وهم يتنبؤون ، فيحل عليهم روح الرب ، فتتنبأ معهم ، وتتحول إلى رجل آخر " .
وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني : "إذ قال بنو الأنبياء : يا
ليشع : هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا ، فلنذهب إلى
الأردن " .
وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواضع ، كما جاء في سفر الأيام الأول . حيث قيل : إن
داود ورؤساء الجيش أفرزوا للخدمة
بني أساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج . . .
[ ص: 1097 ] وهكذا حفلت الجاهليات - ومنها الجاهليات التي انحرفت عن التصور الصحيح الذي جاءت به الرسالات السماوية - بمثل هذه التصورات الباطلة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي . وكان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة مثل هذه الأمور ; ويطالبونه بالتنبؤ بالغيب تارة وبالتأثير في النواميس الكونية عن طريق الكهانة أو طريق السحر تارة . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50nindex.php?page=treesubj&link=19729_29693_29694_31784_18072_31107_30347_19995_29568_31037_32026_30175_30177_28977قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=51وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=52وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=53وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنَّ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=54وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مَنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=55وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ
هَذِهِ الْمَوْجَةُ بَقِيَّةٌ فِي مُوَاجَهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِحَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ ، وَطَبِيعَةِ الرَّسُولِ ; بِمُنَاسَبَةِ طَلَبِهِمْ لِلْخَوَارِقِ - الَّتِي ذَكَرْنَا نَمَاذِجَ مِنْهَا فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَبَقِيَّةٌ فِي تَصْحِيحِ التَّصَوُّرَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ - وَالْبَشَرِيَّةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ - عَنِ الرِّسَالَاتِ وَالرُّسُلِ ; بَعْدَمَا عَبَثَتْ بِهَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ جَاهِلِيَّاتُ
الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ حَوْلَهُمْ ; فَابْتَعَدَتْ بِهَا عَنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَحَقِيقَةِ النُّبُوَّةِ ، وَحَقِيقَةِ الْوَحْيِ ، وَحَقِيقَةِ الرَّسُولِ وَدَخَلَتْ بِهَا فِي خُرَافَاتٍ وَأَسَاطِيرَ وَأَوْهَامٍ وَأَضَالِيلَ ; حَتَّى اخْتَلَطَتِ النُّبُوَّةُ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ ، وَاخْتَلَطَ الْوَحْيُ بِالْجِنِّ وَالْجُنُونِ أَيْضًا !
وَأَصْبَحَ يُطْلَبُ مِنَ النَّبِيِّ أَنْ يَتَنَبَّأَ بِالْغَيْبِ ; وَأَنْ يَأْتِيَ بِالْخَوَارِقِ ; وَأَنْ يَصْنَعَ مَا عَهِدَ النَّاسُ أَنْ يَصْنَعَهُ صَاحِبُ الْجِنِّ وَالسَّاحِرُ ! . . ثُمَّ جَاءَتِ الْعَقِيدَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لِتَقْذِفَ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَتَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ، وَلِتَرُدَّ إِلَى التَّصَوُّرِ الْإِيمَانِيِّ وُضُوحَهُ وَبَسَاطَتَهُ وَصِدْقَهُ وَوَاقِعِيَّتَهُ ، وَلِتُخَلِّصَ صُورَةَ النُّبُوَّةِ وَصُورَةَ النَّبِيِّ مِنْ تِلْكَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَسَاطِيرِ وَالْأَوْهَامِ وَالْأَضَالِيلِ ، الَّتِي شَاعَتْ فِي الْجَاهِلِيَّاتِ كُلِّهَا . وَكَانَ أَقْرَبَهَا إِلَى مُشْرِكِي
الْعَرَبِ جَاهِلِيَّاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ بَيْنَهُمْ ، وَكُلُّهَا تَشْتَرِكُ فِي تَشْوِيهِ صُورَةِ النُّبُوَّةِ وَصُورَةِ النَّبِيِّ أَقْبَحَ تَشْوِيهٍ !
[ ص: 1095 ] وَبَعْدَ بَيَانِ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَحَقِيقَةِ الرَّسُولِ ، وَتَقْدِيمِهَا لِلنَّاسِ مُبَرَّأَةً مِنْ كُلِّ مَا عَلِقَ بِصُورَةِ النُّبُوَّةِ وَصُورَةِ النَّبِيِّ مِنْ أَوْهَامٍ وَأَضَالِيلَ . يُقَدِّمُ الْقُرْآنُ عَقِيدَتَهُ لِلنَّاسِ مُجَرَّدَةً مِنْ كُلِّ إِغْرَاءٍ خَارِجٍ عَنْ طَبِيعَتِهَا ، وَمِنْ كُلِّ زِينَةٍ زَائِدَةٍ عَنْ حَقِيقَتِهَا . . فَالرَّسُولُ الَّذِي يُقَدِّمُهُ لِلنَّاسِ بَشَرٌ ، لَا يَمْلِكُ خَزَائِنَ اللَّهِ ، وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلَا يَقُولُ لَهُمْ : إِنِّي مَلَكٌ . . وَهُوَ لَا يَتَلَقَّى إِلَّا مِنْ رَبِّهِ ، وَلَا يَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْهُ . وَالَّذِينَ يَقْبَلُونَ دَعْوَتَهُ هُمْ أَكْرَمُ الْبَشَرِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَلْزَمَهُمْ ، وَأَنْ يَهُشَّ لَهُمْ ، وَأَنْ يُبَلِّغَهُمْ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ .
كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ إِنْذَارَ الَّذِينَ تَتَحَرَّكُ ضَمَائِرُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الْآخِرَةِ ; لِيَصِلُوا إِلَى مَرْتَبَةِ التَّقْوَى ، وَفِي هَذَا وَذَلِكَ تَنْحَصِرُ وَظِيفَتُهُ ، كَمَا أَنَّهُ فِي "الْبَشَرِيَّةِ " وَفِي "تَلَقِّي الْوَحْيِ " تَنْحَصِرُ حَقِيقَتُهُ . فَتَصِحُّ فِي التَّصَوُّرَاتِ حَقِيقَتُهُ وَوَظِيفَتُهُ جَمِيعًا . . ثُمَّ إِنَّهُ بِهَذَا التَّصْحِيحِ ، وَبِهَذَا الْإِنْذَارِ ، تَسْتَبِينُ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ، عِنْدَ مَفْرِقِ الطَّرِيقِ ، وَيَتَّضِحُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ ، وَيَنْكَشِفُ الْغُمُوضُ وَالْوَهْمُ حَوْلَ طَبِيعَةِ الرَّسُولِ وَحَوْلَ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ ، كَمَا يَنْكَشِفُ الْغُمُوضُ حَوْلَ حَقِيقَةِ الْهُدَى وَحَقِيقَةِ الضَّلَالِ ، وَتَتِمُّ الْمُفَاصَلَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي نُورٍ وَفِي يَقِينٍ .
وَفِي ثَنَايَا الْإِفْصَاحِ عَنْ هَذِهِ الْحَقَائِقِ يَعْرِضُ السِّيَاقُ جَوَانِبَ مِنْ حَقِيقَةِ الْأُلُوهِيَّةِ ، وَعَلَاقَةِ الرَّسُولِ بِهَا ، وَعَلَاقَةِ النَّاسِ جَمِيعًا - الطَّائِعِينَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ - وَيَتَحَدَّثُ عَنْ طَبِيعَةِ الْهُدَى وَطَبِيعَةِ الضَّلَالِ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ . فَالْهُدَى إِلَيْهَا بَصَرٌ وَالضَّلَالُ عَنْهَا عَمَى . وَاللَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ مُتَمَثِّلَةً فِي التَّوْبَةِ عَلَى عِبَادِهِ وَالْمَغْفِرَةِ لِمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمَعَاصِي فِي جَهَالَةٍ مَتَى تَابُوا مِنْهَا وَأَصْلَحُوا بَعْدَهَا . وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ تَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ، فَيُؤْمِنُ مَنْ يُؤْمِنُ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَضِلُّ مَنْ يَضِلُّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَتَّخِذُ النَّاسُ مَوَاقِفَهُمْ فِي وُضُوحٍ لَا تُغَشِّيهِ الْأَوْهَامُ وَالظُّنُونُ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=50قُلْ: لا أَقُولُ لَكُمْ: عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مَلَكٌ. إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ؟ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ . .
لَقَدْ كَانَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ
قُرَيْشٍ يَطْلُبُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةٍ مِنَ الْخَوَارِقِ يُصَدِّقُونَهُ بِهَا - وَهُمْ كَانُوا كَمَا أَسْلَفْنَا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَلَا يَشُكُّونَ فِيهِ - وَتَارَةً كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْوِيلَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ذَهَبًا ! وَتَارَةً تَكُونُ إِبْعَادَهُمَا عَنْ
مَكَّةَ لِيُصْبِحَ مَكَانَهُمَا خِصْبًا مُخْضَرًّا بِالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ! وَتَارَةً تَكُونُ إِنْبَاءَهُمْ بِمَا سَيَقَعُ لَهُمْ مِنْ أَحْدَاثٍ مُغَيَّبَةٍ ! وَتَارَةً تَكُونُ طَلَبَ إِنْزَالِ مَلَكٍ عَلَيْهِ ! وَتَارَةً تَكُونُ طَلَبَ كِتَابٍ مَكْتُوبٍ فِي قِرْطَاسٍ يَرَوْنَهُ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ . . إِلَى آخِرِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الَّتِي يُوَارُونَ وَرَاءَهَا تَعَنُّتَهُمْ وَعِنَادَهُمْ !
وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ كُلَّهَا إِنَّمَا كَانُوا يَصُوغُونَ فِكْرَتَهَا مِنْ تِلْكَ الْأَوْهَامِ وَالْأَسَاطِيرِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِصُورَةِ النُّبُوَّةِ وَصُورَةِ النَّبِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّاتِ مِنْ حَوْلِهِمْ ، وَأَقْرَبُهَا إِلَيْهِمْ أَوْهَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَسَاطِيرُهُمْ حَوْلَ النُّبُوَّةِ ، بَعْدَمَا انْحَرَفُوا عَمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ مِنَ الْحَقِّ الْوَاضِحِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ . .
وَلَقَدْ شَاعَتْ فِي الْجَاهِلِيَّاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ صُوَرٌ مِنَ "النُّبُوءَاتِ " الزَّائِفَةِ ، يَدَّعِيهَا "مُتَنَبِّئُونَ " وَيُصَدِّقُهَا مَخْدُوعُونَ . . وَمِنْ بَيْنِهَا نُبُوءَاتُ السِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالْجُنُونِ ! حَيْثُ يَدَّعِي الْمُتَنَبِّئُونَ قُدْرَتَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ بِالْغَيْبِ ، وَالِاتِّصَالِ بِالْجِنِّ وَالْأَرْوَاحِ ، وَتَسْخِيرِ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ بِالرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ ، أَوْ بِالدَّعَوَاتِ وَالصَّلَوَاتِ ، أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْوَسَائِلِ وَالْأَسَالِيبِ . وَتَتَّفِقُ كُلُّهَا فِي الْوَهْمِ وَالضَّلَالَةِ ، وَتَخْتَلِفُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّوْعِ وَالشَّكْلِ وَالْمَرَاسِمِ وَالْأَسَالِيبِ .
"فَنُبُوءَةُ السِّحْرِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مُوكَّلَةٌ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ تُسَخِّرُهَا لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْمَجْهُولِ أَوِ السَّيْطَرَةِ عَلَى الْحَوَادِثِ وَالْأَشْيَاءِ . وَنُبُوءَةُ الْكِهَانَةِ يَغْلِبُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مُوَكَّلَةٌ "بِالْأَرْبَابِ ! " لَا تُطِيعُ الْكَاهِنَ ، وَلَكِنَّهَا تُلَبِّي دَعَوَاتِهِ وَصَلَوَاتِهِ وَتَفْتَحُ لَهَا مَغَالِقَ الْمَجْهُولِ فِي يَقَظَتِهِ أَوْ مَنَامِهِ ، وَتُرْشِدُهُ بِالْعَلَامَاتِ وَالْأَحْلَامِ ، وَلَا تُلَبِّي سَائِرَ
[ ص: 1096 ] الدَّعَوَاتِ وَالصَّلَوَاتِ ! وَلَكِنَّهُمَا - نُبُوءَةَ السِّحْرِ وَنُبُوءَةَ الْكِهَانَةِ - تُخَالِفَانِ نُبُوَّةَ الْجَذْبِ وَالْجُنُونِ الْمُقَدَّسِ . لِأَنَّ السَّاحِرَ وَالْكَاهِنَ يَدْرِيَانِ بِمَا يَطْلُبَانِ ، وَيُرِيدَانِ قَصْدًا مَا يَطْلُبَانِهِ بِالْعَزَائِمِ وَالصَّلَوَاتِ ، وَلَكِنَّ الْمُصَابَ بِالْجَذْبِ أَوِ الْجُنُونِ الْمُقَدَّسِ مَغْلُوبٌ عَلَى أَمْرِهِ ، يَنْطَلِقُ لِسَانُهُ بِالْعِبَارَاتِ الْمُبْهَمَةِ وَهُوَ لَا يَعْنِيهَا ، وَلَعَلَّهُ لَا يَعِيهَا . وَيَكْثُرُ بَيْنَ الْأُمَمِ الَّتِي تَشِيعُ فِيهَا نُبُوَّةُ الْجَذْبِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمَجْذُوبِ مُفَسِّرٌ يَدَّعِي الْعِلْمَ بِمَغْزَى كَلَامِهِ ، وَلَحْنِ رُمُوزِهِ وَإِشَارَاتِهِ . وَقَدْ كَانُوا فِي
الْيُونَانِ يُسَمُّونَ الْمَجْذُوبَ "مَانْتِي""manti " وَيُسَمُّونَ الْمُفَسِّرَ : "بُرُوفِيتَ " "prophet " أَيِ الْمُتَكَلِّمُ بِالنِّيَابَةِ عَنْ غَيْرِهِ . وَمِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ نَقَلَ الْأُورُبِّيُّونَ كَلِمَةَ النُّبُوَّةِ بِجَمِيعِ مَعَانِيهَا . وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ الْكَهَنَةُ وَالْمَجْذُوبُونَ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكَاهِنُ مُتَوَلِّيًا لِلتَّفْسِيرِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْ مَقَاصِدِ الْمَجْذُوبِ ، وَمَضَامِينِ رُمُوزِهِ وَإِشَارَاتِهِ . وَيَحْدُثُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْيَانِ أَنْ يَخْتَلِفَا وَيَتَنَازَعَا لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِوَظِيفَتِهِمَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ مُخْتَلِفَانِ بِطَبِيعَةِ النَّشْأَةِ وَالْبِيئَةِ . فَالْمَجْذُوبُ ثَائِرٌ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَرَاسِمِ وَالْأَوْضَاعِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا ، وَالْكَاهِنُ مُحَافِظٌ يَتَلَقَّى عِلْمَهُ الْمَوْرُوثَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْيَانِ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ . وَتَتَوَقَّفُ الْكِهَانَةُ عَلَى الْبِيئَةِ الَّتِي تَنْشَأُ فِيهَا الْهَيَاكِلُ وَالصَّوَامِعُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْأَرْجَاءِ الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ ; وَلَا يَتَوَقَّفُ الْجَذْبُ عَلَى هَذِهِ الْبِيئَةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَرِي صَاحِبَهُ فِي الْبَرِّيَّةِ ، كَمَا يَعْتَرِيهِ فِي الْحَاضِرِ الْمَقْصُودِ مِنْ أَطْرَافِ الْبِلَادِ .
وَقَدْ كَثُرَ عَدَدُ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَبَائِلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثْرَةً يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَزْمِنَتِهِمُ الْمُتَعَاقِبَةِ يُشْبِهُونَ فِي الْعُصُورِ الْحَدِيثَةِ أَصْحَابَ الْأَذْكَارِ ، وَدَرَاوِيشَ الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ ، لِأَنَّهُمْ جَاوَزُوا الْمِئَاتِ فِي بَعْضِ الْعُهُودِ ، وَاصْطَنَعُوا مِنَ الرِّيَاضَةِ فِي جَمَاعَاتِهِمْ مَا يَصْطَنِعُهُ هَؤُلَاءِ الدَّرَاوِيشُ مِنَ التَّوَسُّلِ إِلَى حَالَةِ الْجَذْبِ تَارَةً بِتَعْذِيبِ الْجَسَدِ ، وَتَارَةً بِالِاسْتِمَاعِ إِلَى آلَاتِ الطَّرَبِ .
جَاءَ فِي كِتَابِ
صَمُوئِيلَ الْأَوَّلِ :
أَنَّ
شَاوَلَ أَرْسَلَ لِأَخْذِ
دَاوُدَ رُسُلًا . . "فَرَأَوْا جَمَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ يَتَنَبَّؤُونَ ،
وَشَاوَلُ وَاقِفٌ بَيْنَهُمْ رَئِيسًا عَلَيْهِمْ . فَهَبَطَ رُوحُ اللَّهِ عَلَى رُسُلِ
شَاوَلَ ، فَتَنَبَّؤُوا هُمْ أَيْضًا . وَأَرْسَلَ غَيْرَهُمْ فَتَنَبَّأَ هَؤُلَاءِ . . . فَخَلَعَ هُوَ أَيْضًا ثِيَابَهُ ، وَتَنَبَّأَ هُوَ أَيْضًا أَمَامَ
صَمُوئِيلَ ، وَانْتَزَعَ عَارِيًا ذَلِكَ النَّهَارَ كُلَّهُ وَكُلَّ اللَّيْلِ " . .
وَجَاءَ فِي كِتَابِ
صَمُوئِيلَ كَذَلِكَ :
" . . . أَنَّكَ تُصَادِفُ زُمْرَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَازِلِينَ مِنَ الْأَكَمَةِ ، وَأَمَامَهُمْ رَبَابٌ وَدُفٌّ وَنَايٌ وَعُودٌ ، وَهُمْ يَتَنَبَّؤُونَ ، فَيَحِلُّ عَلَيْهِمْ رُوحُ الرَّبِّ ، فَتَتَنَبَّأُ مَعَهُمْ ، وَتَتَحَوَّلُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ " .
وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ صِنَاعَةً وِرَاثِيَّةً يَتَلَقَّاهَا الْأَبْنَاءُ مِنَ الْآبَاءِ كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الثَّانِي : "إِذْ قَالَ بَنُو الْأَنْبِيَاءِ : يَا
لِيَشَعُ : هُوَ ذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي نَحْنُ مُقِيمُونَ فِيهِ أَمَامَكَ قَدْ ضَاقَ عَلَيْنَا ، فَلْنَذْهَبْ إِلَى
الْأُرْدُنِّ " .
وَكَانَتْ لَهُمْ خِدْمَةٌ تُلْحَقُ بِالْجَيْشِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، كَمَا جَاءَ فِي سِفْرِ الْأَيَّامِ الْأَوَّلِ . حَيْثُ قِيلَ : إِنَّ
دَاوُدَ وَرُؤَسَاءَ الْجَيْشِ أَفْرَزُوا لِلْخِدْمَةِ
بَنِي أَسَافٍ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْمُتَنَبِّئِينَ بِالْعِيدَانِ وَالرَّبَابِ وَالصُّنُوجِ . . .
[ ص: 1097 ] وَهَكَذَا حَفَلَتِ الْجَاهِلِيَّاتُ - وَمِنْهَا الْجَاهِلِيَّاتُ الَّتِي انْحَرَفَتْ عَنِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرِّسَالَاتُ السَّمَاوِيَّةُ - بِمِثْلِ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ الْبَاطِلَةِ عَنْ طَبِيعَةِ النُّبُوَّةِ وَطَبِيعَةِ النَّبِيِّ . وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ مِمَّنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ ; وَيُطَالِبُونَهُ بِالتَّنَبُّؤِ بِالْغَيْبِ تَارَةً وَبِالتَّأْثِيرِ فِي النَّوَامِيسِ الْكَوْنِيَّةِ عَنْ طَرِيقِ الْكِهَانَةِ أَوْ طَرِيقِ السِّحْرِ تَارَةً . .