الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق السابع والستون بين قاعدة الأداء الذي يثبت معه الإثم وبين قاعدة الأداء الذي لا يثبت معه الإثم )

اعلم أن هذا الفرق قد أشكل على جماعة من الفقهاء واستشكلوا كيف تكون العبادة أداء وفاعلها آثم وسر الفرق في ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل أرباب الأعذار يدركون الظهر والعصر عند غروب الشمس بإدراك وقت يسع خمس ركعات بعد الطهارة واتفق الناس على أن ما خرج وقته قبل زوال العذر لا يلزم أرباب الأعذار فدل لزوم الصلاتين لهم عند غروب الشمس على بقاء وقتها ولما كان الأداء كما تقدم إيقاع الواجب في وقته المحدود له شرعا كما تقدم تحريره لزم أن يكون الظهر والعصر أداء في حق كل أحد إلى غروب الشمس ؛ لأنا لما حددنا الأداء لم نحده بالنسبة للفاعلين وإنما حددناه بالنسبة إلى العبادة خاصة مع قطع النظر عن الفاعل من هو هل هو ذو عذر أم لا .

ولم يتعرض أحد في حد الأداء والقضاء لأحوال المكلف في حدهما بل للعبادة فقط فصار الأداء والقضاء تابعا لكون العبادة في وقتها أم لا فكان الظهر أداء إلى غروب الشمس بناء على صدق حد الأداء عليه ولما كان الشرع قد منع المكلف الذي لا عذر له من تأخير العبادات إلى آخر الوقت مطلقا بل عليه أن يوقع في آخر فسمي الوقت وهو من أول الزوال إلى آخر القامة ويبقى من آخر القامة إلى غروب الشمس هو من الوقت باعتبار حد الأداء ، وغير المعذور ممنوع منه فإذا أخر الفعل إليه وأوقعه فيه كان مؤديا آثما أما أداؤه فلصدق حد الأداء .

وأما ثمة فلتأخيره عن الحد الذي حدد له من الوقت ولصاحب الشرع أن يحدد للعبادة وقتا ويجعل نصفه الأول لطائفة ونصفه الآخر لطائفة أخرى فتأثم الأولى بتعديها لغير وقتها ألا ترى أن القامة وقت أداء بلا خلاف لصلاة الظهر من حيث الجملة ومع ذلك لو غلب على ظن طائفة أنها لا تعيش إلى آخر القامة بل لنصفها جعل صاحب [ ص: 60 ] الشرع نصف القامة وقتا لهؤلاء خاصة دون غيرهم والنصف الآخر من القامة ليس وقتا لهم كذلك هاهنا وقت الظهر إلى غروب الشمس وحجر صاحب الشرع على المختارين الوصول إليه وحدد لهم آخر القامة فإذا تعدوا القامة كانوا مؤدين آثمين فكذلك القول في المغرب أداء إلى طلوع الفجر بسبب أن أرباب الأعذار يدركون صلاتي الليل إلى طلوع الفجر والإجماع منعقد على أن ما خرج وقته لا يلزم أرباب الأعذار ألا ترى أنهم يدركون المغرب والعشاء بإدراك أربع ركعات قبل الفجر ولا يلزم بذلك صلاة النهار المتقدم بسبب أن وقته خرج بغروب الشمس .

فإذا أخر أيضا المكلف المختار المغرب أو العشاء إلى طلوع الفجر كان مؤديا آثما أما أداؤه فلوجود الأداء في حقه .

وأما إثمه فلأن الله تعالى خصصه بقطعة من الوقت فتعداها لنصيب غيره منه وإنما كان يلزم الإشكال في الجمع بين الأداء والإثم أن لو كان حد الأداء إيقاع الواجب في وقته الاختياري له فكان حينئذ إيقاعه في غير الاختياري قضاء لكن حد الأداء إيقاع الواجب في وقته مطلقا والقضاء إيقاعه خارج وقته مطلقا ولم نقل إنه خارج وقته الاختياري وكتب أصول الفقه مجمعة على ذلك ومصرحة به فظهر إمكان اجتماع الأداء والإثم في حق من حجر عليه في بعض الوقت وعدم اجتماع الإثم مع الأداء في حق من لم يحجر عليه في شيء من [ ص: 61 ] الوقت كما يجتمع الأداء والإثم فيمن أخر إلى آخر القامة وهو كان يعتقد أنه لا يتمكن من إيقاع الفعل آخر القامة فقدر وأخر وصلى فإنه مؤد آثم ويجتمع في حقه الأداء على الخلاف والإثم إجماعا وإنما وقع الخلاف في اجتماعهما آخر النهار وعند طلوع الفجر فمذهب ابن القاسم اجتماعهما ومذهب غيره عدم اجتماعهما فعلى هذا يجتمع الإثم والأداء في حق فريقين من الناس أحدهما المختارون الذين لا عذر لهم إذا أخروا إلى غروب الشمس أو بعد القامة ومن حيث الجملة أو أخروا المغرب والعشاء إلى بعد ثلث الليل أو نصفه على الخلاف في آخر وقت العشاء هل هو ثلث الليل أو نصفه وهل تؤخر المغرب إلى الشفق أم لا وثانيهما الفرق الذي يغلب على ظنهم عدم المكنة في آخر الوقت الاختياري فيؤخرون إلى آخره فإنهم آثمون مع الأداء إذا فعلوا آخر الوقت الاختياري في القامة للظهر مثلا ونحوه من الأوقات الاختيارية وتحرر بهذا الفرق زوال ما استشكله الشافعية علينا من الجمع بين الأداء والإثم فإنهم قائلون به في الفريق الثاني فكذلك يلزمهم في الفريق الأول [ ص: 62 ] ويتضح مذهبنا اتضاحا جيدا وأنا لم نخالف قاعدة بل مشينا على القواعد ويلزم الشافعية إشكال لا جواب لهم عنه وهو أن يكون حدهم الأداء والقضاء في كتبهم الأصولية باطلا ؛ لأنهم أطلقوا القول فيها وليس مطلقا على ما زعموا بل يتعين أن يكون الأداء في كتبهم إيقاع العبادة في وقتها الاختياري والقضاء إيقاع العبادة خارج وقتها الاختياري أصل لكنهم في كتب الأصول لم يصنعوا ذلك .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 56 - 59 ] قال ( الفرق السابع والستون بين قاعدة الأداء الذي يثبت معه الإثم وبين قاعدة الأداء الذي لا يثبت معه الإثم إلى قوله فيأثم الأول بتعديها إلى غير وقتها ) قلت ما قاله صحيح على تقدير أن اصطلاح الفقهاء موافق لتحديده الأداء وإلا فهو اصطلاح اخترعه وما قاله صحيح أيضا على تسليم اصطلاحه ولا مشاحة في الاصطلاح .

قال ( ألا ترى أن القامة وقت أداء بلا خلاف لصلاة الظهر من حيث الجملة ومع ذلك لو غلب على ظن طائفة أنها لا تعيش إلى آخر القامة بل لنصفها جعل صاحب [ ص: 60 ] الشرع نصف القامة وقتا لهؤلاء خاصة دون غيرهم والنصف الآخر من القامة ليس وقتا لهم ) قلت ما قاله من أن صاحب الشرع جعل نصف القامة وقتا لمن غلب على ظنه أنه لا يعيش إلى نصفها باطل لا شك فيه وإن كان ذهب إلى ذلك طائفة فهو مذهب ذاهب ودعوى لا حجة عليها ألبتة ومن غلب على ظنه ذلك فلا يخلو أن يقع الأمر كما ظنه أو لا ، فإن وقع الأمر كما ظنه فلا يخلو أن يكون قد أوقع الصلاة قبل موته أو لا ، فإن كان قد أوقعها فقد أوقع الواجب وفاز بأجره وإن لم يكن أوقعها فلا مؤاخذة عليه فإنه مات في أثناء الوقت فلا يعد مفرطا بوجه وإن لم يقع الأمر كما ظنه فلا يخلو أن يوقع الصلاة في بقية القامة أو لا ، فإن أوقعها فقد فعل ما أمر به ولم تلحقه مؤاخذة ولم يعد مفرطا وإن لم يوقعها إلا بعد القامة فهو مفرط أثم والله أعلم .

قال ( فكذلك هاهنا وقت الظهر إلى غروب الشمس إلى منتهى قوله فإن الله تعالى خصه بقطعة من الوقت فتعداها لنصيب غيره منه ) قلت ما قاله في هذا الفصل صحيح على تسليم اصطلاحه وتصحيح حده بخلاف ما نظر به ومن مسألة الذي يظن أنه لا يعيش إلى تمام الوقت ، والفرق بين الأمرين أن تحديد وقت الاختيار بالقامة ثابت من الشرع متفق عليه وتحديد الوقت بالظن المذكور غير ثابت من الشرع ولا متفق عليه لا بدليل ظني ولا قطعي بوجه .

قال ( وإنما كان يلزم الإشكال إلى قوله [ ص: 61 ] فمذهب ابن القاسم اجتماعهما ومذهب غيره عدم اجتماعهما ) قلت ما قاله من أنه إنما كان يلزم الإشكال لو كان حد الأداء إيقاع الواجب في وقته الاختياري صحيح وما قاله من أن كتب الأصول مجمعة على ذلك ومصرحة به إن أراد أنها مجمعة على إطلاق لفظ أن الإجزاء فعل الواجب في وقته المحدود له هكذا فذلك صحيح ، وإن أراد أن كتب الأصول مصرحة بلفظ الإطلاق بأن يكون اللفظ مثلا لأداء فعل الواجب في وقته المحدود له مطلقا أو على الإطلاق فلا أعرف أني وقفت لهم على ذلك وما ذكره من أن من كان يعتقد أنه لا يتمكن من إيقاع الفعل آخر القامة فقدر تمكنه وصلى مدا آثم إجماعا غير صحيح وإنما هو رأي لبعض الناس وهو باطل لا شك في بطلانه .

قال ( فعلى هذا يجتمع الأداء والإثم في حق فريقين من الناس أحدهما المختارون الذين لا عذر لهم إذا أخروا إلى غروب الشمس أو بعد القامة من حيث الجملة إلى آخر قوله وهل تؤخر المغرب إلى الشفق أم لا ) قلت ما قاله في هذا الفرق صحيح بناء على تسليم الاصطلاح المتقدم وتصحيح حده .

قال ( وثانيهما الفريق الذي يغلب على ظنهم عدم المكنة في آخر الوقت الاختياري فيؤخرون إلى آخره فإنهم آثمون مع الأداء إذا فعلوا آخر الوقت الاختياري في القامة للظهر مثلا ونحوه من الأوقات الاختيارية ) قلت قد تقدم أن ذلك ليس بصحيح .

قال ( وتحرر بهذا الفرق زوال ما استشكله الشافعية علينا من الجمع بين الأداء والإثم فإنهم قائلون به في الفريق الثاني فكذلك يلزمهم في الفريق الأول ) قلت يلزم ذلك كما ذكر لمن .

قال به من [ ص: 62 ] الشافعية وذلك إذا قال : إنه أداء أما إذا قال : إنه قضاء فلا يلزمه .

قال ( ويتضح مذهبنا اتضاحا جيدا فإنا لم نخالف قاعدة بل مشينا على القواعد ) قلت ما قاله هنا صحيح بناء على ما قرر .

قال ( ويلزم الشافعية إشكال لا جواب لهم عنه وهو أن يكون حدهم الأداء والقضاء في كتبهم الأصولية باطلا فإنهم أطلقوا القول فيها إلى قوله لكنهم في كتب الأصول لم يصنعوا ذلك ) قلت ولا صنعه غيرهم من المالكية وغيرهم فيما علمت وليس بنكير أن يطلق القول والمراد التقييد وغايته أن تقول تجنب ذلك في الحدود أكيد .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق السابع والستون بين قاعدة الأداء الذي يثبت معه الإثم وبين قاعدة الأداء الذي لا يثبت معه الإثم )

وذلك أن ما ذكر من حد الأداء وحد القضاء لما لم يتعرض فيهما لأحوال المكلف بل للعبادة فقط وكان حد الأداء يصدق على أن وقت أداء الظهر من أول الزوال إلى غروب الشمس ووقت أداء المغرب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر بسبب أن أرباب الأعذار يدركون الظهرين بزوال عذرهم في مقدار ما يسع خمس ركعات قبل غروب الشمس ويدركون صلاتي الليل بزواله في مقدار ما يسع أربع ركعات قبل طلوع الفجر الإجماع منعقد على أن ما خرج وقته لا يلزم أرباب الأعذار ، ألا ترى أنهم لا يلزمهم صلاة النهار إذا لم يزل عذرهم إلا بعد غروب الشمس ولا صلاة الليل إذا لم يزل إلا بعد طلوع الفجر إلا أن الشرع لما منع المكلف الذي لا عذر له من تأخير العبادات إلى آخر الوقت مطلقا وحد وقت الاختيار في الظهر بآخر القامة وفي العصر بالاصفرار وفي المغرب على زاوية اتحاده .

قال ابن الحاجب : وهي الأشهر وقال في الاستذكار الاتحاد هو المشهور بقدر ما يسع فعلها بعد شروطها وعلى رواية امتداده .

قال ابن العربي في عارضته القول بالامتداد هو الصحيح وقال في أحكامه إنه هو المشهور من مذهب مالك وقوله الذي في موطئه الذي قرأه طول عمره وأملاه حياته ا هـ . بغياب الشفق الأحمر كما في الحطاب على خليل ، وفي العشاء أما بثلث الليل الأول .

وأما بنصفه على الخلاف وحد وقت الاضطرار في الظهر من بعد القامة والعصر من بعد الاصفرار إلى غروب الشمس فيهما وفي المغرب إما من بعد ما يسعها بشروطها أو من بعد غياب الشفق الأحمر على الروايتين وفي العشاء إما من بعد الثلث أو النصف إلى طلوع الفجر فيهما بحيث إن صاحب الشرع حجر على المختارين من إيقاع الظهر مثلا فيما بعد القامة إلى غروب الشمس ومن إيقاع المغرب مثلا فيما بعد ما يسعها بشروطها أو فيما بعد غياب الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر وإن كان كل من الوقتين [ ص: 84 ] المذكورين يصدق عليه حد الأداء المار كان إيقاع المختارين الظهر بعد القامة والعصر بعد الاصفرار والمغرب بعد ما يسعها بشروطها أو بعد غياب الشفق الأحمر والعشاء بعد الثلث أو النصف أداء معه الإثم لتعديهم ما حدده لهم صاحب الشرع وإيقاعهم الظهر في القامة والمغرب فيما يسعها بشروطها أداء ليس معه إثم لعدم تعديهم ما حدده لهم صاحب الشرع إذ لصاحب الشرع أن يحدد للعبادة وقتا ويجعل نصفه الأول لطائفة ونصفه الآخر لطائفة أخرى فتأثم الأولى بتعديها لغير وقتها ، ألا ترى أن القامة وقت أداء بلا خلاف لصلاة الظهر من حيث الجملة ومع ذلك لو غلب على ظن طائفة أنها لا تعيش إلى آخر القامة بل لنصفها لجعل صاحب الشرع نصف القامة وقتا لهؤلاء خاصة دون غيرهم والنصف الآخر من القامة ليس وقتا لهم ، فكذلك ها هنا جعل صاحب الشرع وقت الظهر إلى غروب الشمس ووقت المغرب إلى طلوع الفجر وحجر على المختارين الوصول إليه وجعلهم بتعدي القامة وغياب الشفق الأحمر مؤدين آثمين وجعل لأرباب الأعذار إدراك الظهر والعصر أداء بلا إثم فيما يسع خمس ركعات قبل الغروب وإدراك المغرب والعشاء أداء بلا إثم فيما يسع أربع ركعات قبل الفجر .

فظهر بهذا تحرير الفرق وزال ما استشكله الشافعية علينا من الجمع بين الأداء والإثم على أنهم قائلون به فيمن ظن ما ذكر فكذلك يلزمهم أن يقولوا به في المختارين بالأولى هذا خلاصة ما قاله الأصل قال ابن الشاط وما قاله صحيح على تقدير أن اصطلاح الفقهاء موافق لتحديده الأداء أو على تسليم اصطلاحه ولا مشاحة في الاصطلاح ، وتصحيح تحديده إلا أن دعواه أن صاحب الشرع جعل نصف القامة وقتا لمن غلب على ظنه أنه لا يعيش إلى نصفها باطلة بلا شك وإن كان ذهب إلى ذلك طائفة فهو مذهب ذاهب ودعوى لا حجة عليها ألبتة فلا يصح التنظير به ضرورة أن تحديد وقت الاختيار بالقامة مثلا ثابت من الشرع متفق عليه وتحديد الوقت بالظن المذكور غير ثابت من الشرع ولا متفق عليه لا بدليل ظني ولا قطعي بوجه بل الحق أن من غلب على ظنه ذلك إن وقع الأمر لما ظنه فأما أن يوقع الصلاة قبل موته فيكون قد أوقع الواجب عليه وفاز بأجره .

وأما أن لا يوقعها فلا يؤاخذ ؛ لأنه مات في أثناء [ ص: 85 ] الوقت فلا يعد مفرطا بوجه وإن لم يقع الأمر كما ظنه فأما أن يوقع الصلاة في بقية القامة فيكون قد فعل ما أمر به فلا يلحقه مؤاخذة ولا يعد مفرطا ، وأما أن لا يوقعها إلا بعد القامة فيكون مفرطا آثما وأن من قال من الشافعية بالجمع بين الأداء والإثم في حق من ظن ما ذكر إذا صلى في النصف الأخير من القامة لا يلزمه أن يقول به في المختارين بالأولى إلا إذا قال : إنه أداء هو إنما قال أنه قضاء ا هـ والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية