الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [8 - 9] لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون

                                                                                                                                                                                                                                      لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون هذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. فهو في المعنى تخصيص لقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي إلخ. أي: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكة، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، أي: تفضوا إليهم بالبر، وهو الإحسان، والقسط وهو العدل، فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه، بل مأمور به في حقهم. والخطاب [ ص: 5769 ] وإن يكن في مشركي مكة؛ إلا أن العبرة بعموم لفظه، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه، فرد ذلك الإمام ابن جرير بقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      والصواب قول من قال: عني بقوله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، فإن الله عز وجل عم بقوله: الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة ونسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ونسب، غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب، على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح، وقد بين صحة ما قلناه الخبر في قصة أسماء وأمها. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وذلك أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: «نعم! صلي أمك» . رواه أحمد والشيخان، ورواه أيضا الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير ؛ قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: ضباب، وقرظ، وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5770 ] فأنزل الله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآية. فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها.
                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي: وقوله تعالى: أن تبروهم بدل من الذين لم يقاتلوكم وكذلك أن تولوهم بدل من الذين قاتلوكم والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم، لشدتهم في العداوة، وهذه الآية على جواز البر بين المشركين والمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية