الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

[ حقيقة الهازل وحكم عقوده ]

وأما الهازل فهو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته ، بل على وجه للعب ونقيضه الجاد فاعل من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل ، وهو مأخوذ من " جد فلان " إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ ، والهزل : من هزل إذا ضعف وضؤل ، نزل الكلام الذي يراد معناه وحقيقته بمنزلة صاحب الحظ والبخت والغنى ، والذي لم يرد معناه وحقيقته بمنزلة الخالي من ذلك ; إذ قوام الكلام بمعناه ، وقوام الرجل بحظه وماله ، وقد جاء فيه حديث أبي هريرة المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم { ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة } رواه أهل السنن وحسنه الترمذي .

وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم { من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز } . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أربع جائزات إذا تكلم بهن : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح ، والنذر . وقال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : ثلاث لا لعب فيهم : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح .

وقال أبو الدرداء : ثلاث اللعب فيهن كالجد : الطلاق ، والعتاق ، والنكاح .

وقال ابن مسعود : النكاح جده ولعبه سواء ، ذكر ذلك أبو حفص العكبري .

فصل

[ أقوال الفقهاء والحكمة في نفاذ حكم العقود على الهازل ]

فأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور ، وكذلك نكاحه صحيح كما صرح به النص ، وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين ، وهو قول الجمهور ، وحكاه أبو حفص أيضا عن أحمد ، وهو قول أصحابه ، وقول طائفة من أصحاب الشافعي ، وذكر بعضهم أن الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه ، ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم ، بخلاف البيع ، وروى عنه علي بن زياد أن نكاح الهازل لا يجوز .

قال بعض أصحابه : فإن قام دليل الهزل لم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق ، ولا شيء عليه من الصداق ، وأما بيع الهازل وتصرفاته المالية فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه ، وهو قول الحنفية والمالكية . وقال أبو الخطاب في [ ص: 101 ] انتصاره : يصح بيعه كطلاقه ، وخرجها بعض الشافعية على وجهين ، ومن قال بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة .

والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غير ملزم لحكمه ، وترتيب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد ، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى ; لأن ذلك لا يقف على اختياره ، وذلك أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه ، وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك للمعنى لتلازمهما ، إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره والمخادع المحتال ; فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول وموجبه ، ألا ترى أن المكره قصد دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداء ، والمحلل قصد إعادتها إلى المطلق ، وذلك مناف لقصده موجب السبب ، وأما الهازل فقصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه فترتب عليه أثره .

فإن قيل : هذا ينتقض عليكم بلغو اليمين فإنه لا يترتب عليه حكمه .

قيل : اللاغي لم يقصد السب ، وإنما جرى على لسانه من غير قصده ; فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله ، وأيضا فالهزل أمر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل ، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر ، ومن فرق بين البيع وبابه والنكاح وبابه قال : الحديث والآثار تدل على أن من العقود ما يكون جده وهزله سواء ، ومنها ما لا يكون كذلك ، وإلا لقال العقود كلها أو الكلام كله جده وهزله سواء ، وأما من جهة المعنى فإن النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حق الله تعالى .

أما العتق فظاهر ، وأما الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع ، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وإن لم تطلبها الزوجة ، وكذلك في النكاح فإنه يفيد حل ما كان حراما وحرمة ما كان حلالا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة ; ولهذا لا يستباح إلا بالمهر ، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد - مع تعاطي السبب الموجب لهذه الأحكام - أن لا يرتب عليها موجباتها ، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هزل بها كما صرح به القرآن ; فإن الكلام المتضمن لحق الله لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق ; إذ ليس للعبد أن يهزل مع ربه ولا يستهزئ بآياته ولا يتلاعب بحدوده .

وفي حديث أبي موسى { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته } وذلك في الهازلين ، يعني - والله أعلم - يقولونها لعبا غير ملتزمين لأحكامها وحكمها لازم لهم ، وهذا بخلاف البيع وبابه ; فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي ، ولهذا يملك بذله بعوض وغير عوض ، والإنسان قد يلعب مع الإنسان وينبسط معه ، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد ; لأن المزاح معه جائز . [ ص: 102 ] وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز ، فيكون جد القول وهزله سواء ، بخلاف جانب العباد ، ألا ترى أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح مع الصحابة ويباسطهم } .

وأما مع ربه تعالى فيجد كل الجد ، ولهذا { قال للأعرابي يمازحه : من يشتري مني العبد ؟ فقال : تجدني رخيصا يا رسول الله ؟ فقال : بل أنت عند الله غال } وقصد صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ، والصيغة صيغة استفهام ، وهو صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا ، ولو أن رجلا قال : " من يتزوج أمي أو أختي " لكان من أقبح الكلام ، وقد كان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته أخته ، وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود { أن رجلا قال لامرأته : يا أخته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أختك هي ؟ إنما جعل إبراهيم ذلك حاجة لا مزاحا } .

ومما يوضحه أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه ، بل هو مقدم على نقلها ، ولهذا يستحب عقده في المساجد ، وينهى عن البيع فيها ، ومن يشترط له لفظا بالعربية راعى فيه ذلك إلحاقا له بالأذكار المشروعة ، ومثل هذا لا يجوز الهزل به ، فإذا تكلم به رتب الشارع عليه حكمه وإن لم يقصده ، بحكم ولاية الشارع على العبد ، فالمكلف قصد السبب ، والشارع قصد الحكم ، فصارا مقصودين كلاهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية