الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 212 ] قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب .

استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأن إعراضهم إنما هو حسد على زوال النبوة منهم ، وانقراض الملك منهم ، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنه لا عجب أن تنتقل النبوة من بني إسرائيل إلى العرب ، مع الإيماء إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والملك .

و " اللهم " في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء ، ومعناه يا الله . ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة : إن الميم عوض من حرف النداء يريدون أن لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لما لم يقع إلا عند إرادة الدعاء صار غنيا عن جلب حرف النداء اختصارا وليس المراد أن الميم تفيد النداء . والظاهر أن الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة " اللهم " من عبرانية أو قحطانية وأن أصلها " لاهم " مرادف إله .

ويدل على أن العرب نطقوا به هكذا في غير النداء كقول الأعشى :


كدعوة من أبي رباح يسمعها اللهم الكبير

وأنهم نطقوا به كذلك مع النداء كقول أبي خراش الهذلي :


إني إذا ما حدث ألمـا     أقول يا اللهم يا اللهما

وأنهم يقولون يا الله كثيرا . وقال جمهور النحاة : إن الميم عوض عن حرف النداء المحذوف ، وإنه تعويض غير قياسي وإن ما وقع على خلاف ذلك شذوذ . وزعم الفراء أن " اللهم " مختزل من اسم الجلالة وجملة أصلها : " يا الله أم " أي أقبل علينا بخير ، وكل ذلك تكلف لا دليل عليه .

[ ص: 213 ] والمالك هو : المختص بالتصرف في شيء بجميع ما يتصرف في أمثاله مما يقصد له من ذواتها ، ومنافعها ، وثمراتها ، بما يشاء . فقد يكون ذلك بالانفراد ، وهو الأكثر ، وقد يكون بمشاركة واسعة ، أو ضيقة .

و الملك بضم الميم وسكون اللام نوع من الملك - بكسر الميم - فالملك بالكسر جنس والملك - بالضم - نوع منه وهو أعلى أنواعه ، ومعناه التصرف في جماعة عظيمة ، أو أمة عديدة تصرف التدبير للشئون ، وإقامة الحقوق ، ورعاية المصالح ، ودفع العدوان عنها ، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها ، بالرغبة والرهبة . وانظر قوله تعالى : قالوا أنى يكون له الملك علينا في سورة البقرة وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : ملك يوم الدين ، فمعنى مالك الملك أنه المتصرف في نوع الملك - بالضم - بما يشاء ، بأن يراد بـ الملك هذا النوع . والتعريف في الملك الأول لاستغراق الجنس : أي كل ملك هو في الدنيا . ولما كان الملك ماهية من المواهي ، كان معنى كون الله مالك الملك أنه المالك لتصريف الملك ، أي لإعطائه ، وتوزيعه ، وتوسيعه ، وتضييقه ، فهو على تقدير مضاف في المعنى .

والتعريف في الملك الثاني والثالث للجنس ، دون استغراق أي طائفة وحصة من جنس الملك ، والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن . ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله : تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء فإن إيتاءه ونزعه مقول عليه بالتشكيك : إيجابا وسلبا ، وكثرة وقلة .

والنزع - حقيقة - : إزالة الجرم من مكانه : كنزع الثوب ، ونزع الماء من البئر ، ويستعار لإزالة الصفات والمعاني كما قال تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل ، بتشبيه المعنى المتمكن بالذات المتصلة بالمكان ، وتشبيه إزالته بالنزع ، ومنه قوله هنا : تنزع الملك أي تزيل وصف الملك ممن تشاء .

وقوله : بيدك الخير تمثيل للتصرف في الأمر ; لأن المتصرف يكون أقوى تصرفه بوضع شيء بيده ، ولو كان لا يوضع في اليد ، قال عنترة بن الأخرس المعني الطائي :


فما بـيديك خـير أرتـجـيه     وغير صدودك الخطب الكبير

وهذا يعد من المتشابه لأن فيه إضافة اليد إلى ضمير الجلالة ، ولا تشابه فيه لظهور [ ص: 214 ] المراد من استعماله في الكلام العربي . والاقتصار على الخير في تصرف الله تعالى اكتفاء ، كقوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر ، أي والبرد .

وكان الخير مقتضى بالذات أصالة والشر مقتضى بالعرض قال الجلال الدواني في شرح ديباجة هياكل النور : وخص الخير هنا لأن المقام مقام ترجي المسلمين الخير من الله ، وقد علم أن خيرهم شر لضدهم كما قيل :


مصائب قوم عند قوم فوائد

أي الخير مقتضى الذات والشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن خيرات كثيرة هو مستلزم لشر قليل ، فلو تركت تلك الخيرات الكثيرة لذلك الشر القليل ، لصار تركها شرا كثيرا ، فلما صدر ذلك الخير لزمه حصول ذلك الشر .

وحقيقة " تولج " تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل ، فكأن أحدهما يدخل في الآخر ، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ، ثم يزيد أحدهما لكن الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلا العلماء ، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية ، قال ابن عرفة : كان بعضهم يقول : القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام ، وألفاظ يفهمها الخواص ، وما يفهمه الفريقان ، ومنه هذه الآية ; فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلا الخواص ، والفصول التي يدركها سائر العوام .

وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك ، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى ، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات ، ولذلك ابتدئ بقوله تولج الليل في النهار ، ليكون الانتهاء بقوله : وتولج النهار في الليل ، فهو نظير التعريض الذي بينته في قوله : تؤتي الملك من تشاء الآية . والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله : اللهم مالك الملك إلخ .

وإخراج الحي من الميت كخروج الحيوان من المضغة ، ومن مح البيضة ، وإخراج الميت من الحي في عكس ذلك كله ، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله : [ ص: 215 ] ومن يخرج الحي من الميت في سورة يونس . وهذا رمز إلى ظهور الهدى والملك في أمة أمية ، وظهور ضلال الكفر في أهل الكتابين ، وزوال الملك من خلفهم بعد أن كان شعار أسلافهم ، بقرينة افتتاح الكلام بقوله : اللهم مالك الملك إلخ .

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : الميت بتشديد التحتية . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب : بسكون التحتية . وهما وجهان في لفظ الميت .

وقوله : وترزق من تشاء بغير حساب هو كالتذييل لذلك كله .

والرزق ما ينتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمار كقوله : وجد عندها رزقا وقوله : فليأتكم برزق منه ، ويطلق على أعم من ذلك مما ينتفع به كما في قوله تعالى : يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب ثم قال : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد وقوله قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقا : لأن بها يعوض ما هو رزق ، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبئ لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية