الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 108 ] ( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه سبحانه لما قال: ( ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ) ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه ، وهو من وجهين.

                                                                                                                                                                                                                                            الأول قولهم: ( ربنا غلبت علينا شقوتنا ) وفيه مسألتان:

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": غلبت علينا : ملكتنا ، من قولك: غلبني فلان على كذا : إذا أخذه منك، والشقاوة : سوء العاقبة، قرئ: " شقوتنا " بفتح الشين وكسرها فيهما، قال أبو مسلم : الشقوة من الشقاء كجرية الماء، والمصدر الجري، وقد يجيء لفظ فعلة، والمراد به الهيئة والحال، فيقول: جلسة حسنة وركبة وقعدة ، وذلك من الهيئة، وتقول: عاش فلان عيشة طيبة ومات ميتة كريمة، وهذا هو الحال والهيئة، فعلى هذا ، المراد من الشقوة حال الشقاء.

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية: قال الجبائي : المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب، وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم. قلنا: إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة، وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث، فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك، وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى محدث , فمحدثه إما العبد أو الله تعالى ; فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه:

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها: أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وذلك يسد باب إثبات الصانع.

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها: أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثا له، وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم.

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني: أن أحدا في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا تحصيل العلم، فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم، فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه، لكنه لم يقصد إلا العلم ، فكيف حصل الجهل؟ فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى ، ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة.

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني لهم في الجواب: قولهم: ( وكنا قوما ضالين ) وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم ، وما ذاك إلا [ ص: 109 ] خلق الداعي إلى الضلال. ثم إن القوم لما أوردوا هذين العذرين، قال لهم سبحانه: ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة، بل لا يسأل عما يفعل. قال القاضي : في قوله : ( ربنا غلبت علينا شقوتنا ) دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف، فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته، وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب، فنقول : قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك، ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم، فلا جرم قال لهم: ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ) فالمعنى: أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا، فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون، فإن قيل: كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم؟ قلنا: يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( اخسئوا فيها ) فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت، يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه.

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ولا تكلمون ) فليس هذا نهيا لأنه لا تكليف في الآخرة، بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف، قيل: هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير، والعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن لهم ست دعوات، إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة : ( ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا ) [السجدة: 12] فيجابون ( حق القول مني ) [السجدة: 13] فينادون ألف سنة ثانية ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) [غافر: 11] فيجابون ( ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ) [غافر: 12] فينادون ألفا ثالثة ( يامالك ليقض علينا ربك ) [الزخرف: 77] فيجابون ( إنكم ماكثون ) [الزخرف: 77] فينادون ألفا رابعة ( ربنا أخرجنا ) فيجابون ( أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) [إبراهيم: 44] فينادون ألفا خامسة ( أخرجنا نعمل صالحا ) [فاطر: 37] فيجابون ( أولم نعمركم ) [فاطر: 37] فينادون ألفا سادسة ( رب ارجعون ) [المؤمنون: 99] فيجابون ( اخسئوا فيها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم بين سبحانه وتعالى، أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين، وهو قوله : ( إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا ) [المؤمنون: 110] فوصف تعالى أحد ما لأجله عذبوا وبعدوا من الخير، وهو ما عاملوا به المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                            وفي حرف أبي "أنه كان فريق" بالفتح ، بمعنى لأنه. وقرأ نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالكسر هاهنا، وفي ص قال الخليل وسيبويه : هما لغتان كدري ودري. وقال الكسائي والفراء : الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية. قال مقاتل : إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخباب وعمار وصهيب، والمعنى اتخذتموهم هزوا حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكري ، وأكد ذلك بقوله: ( وكنتم منهم تضحكون ) ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال: ( إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) قرأ حمزة والكسائي "إنهم" بالكسر والباقون بالفتح، فالكسر استئناف ؛ أي: قد فازوا حيث صبروا فجوزوا بصبرهم أحسن الجزاء، والفتح على أنه في موضع المفعول الثاني من جزيت، ويجوز أن يكون نصبا بإضمار الخافض ؛ أي: جزيتهم الجزاء الوافر; لأنهم هم الفائزون.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية