الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2182 [ ص: 174 ] 5 - باب: وكالة الشاهد والغائب جائزة

                                                                                                                                                                                                                              وكتب عبد الله بن عمرو إلى قهرمانه وهو غائب عنه أن يزكي عن أهله الصغير والكبير.

                                                                                                                                                                                                                              2305 - حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل فجاءه يتقاضاه، فقال: "أعطوه". فطلبوا سنه فلم يجدوا له إلا سنا فوقها. فقال: "أعطوه". فقال: أوفيتني أوفى الله بك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن خياركم أحسنكم قضاء". [2306، 2390، 2392، 2401، 2606، 2609 - مسلم: 1601 - فتح: 4 \ 482]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث أبي هريرة : قال: كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل فجاءه يتقاضاه، فقال: "أعطوه". فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها. فقال: "أعطوه". فقال: أوفيتني أوفى الله بك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن خياركم أحسنكم قضاء".

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه مسلم، وانفرد به من طريق أبي رافع .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الترمذي لما صححه: العمل عليه عند بعض أهل العلم، لم يروا بأسا باستقراض السن من الإبل، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وكرهه بعضهم.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة في قوله: إنه لا يجوز توكيل الحاضر بالبلد الصحيح البدن إلا برضا من خصمه، أو عذر من مرض، أو سفر ثلاثة أيام. [ ص: 175 ]

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث خلاف قوله؛ لأنه - عليه السلام - أمر أصحابه أن يقضوا عنه السنن التي كانت عليه، وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يكن - عليه السلام - غائبا، ولا مريضا، ولا مسافرا.

                                                                                                                                                                                                                              وعامة الفقهاء يجيزون توكيل الحاضر الصحيح وإن لم يرض خصمه بذلك على ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي ومالك وأبي يوسف ومحمد، إلا أن مالكا قال: يجوز ذلك وإن لم يرض خصمه إذا لم يكن الوكيل عدوا للخصم، وقال سائرهم: يجوز ذلك وإن كان عدوا للخصم.

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي حنيفة أن الوكالة في الخصومة لا تقبل من خاصم في المصر صحيح إلا أن يرضى خصمه، وقالا: التوكيل صحيح بدون رضا الخصم، وأما المريض الذي لا يقدر على الحضور والخصومة فيجوز توكيله وكذا الغائب على مسافة القصر، والمرأة كالرجل، بكرا كانت أو ثيبا، وبعض شيوخ الحنفية استحسن أنها توكل إذا كانت غير برزة.

                                                                                                                                                                                                                              ونقل الطحاوي اتفاق الصحابة على جواز ما سلف، فروى أن علي بن أبي طالب وكل عقيلا عند أبي بكر، فلما أسن عقيل، وذكر عبد الله بن جعفر، فخاصم عبد الرحمن بن جعفر طلحة في ضفيرة أحدثها علي عند عثمان، وأقر ذلك عثمان، فصار إجماعا. وقال [ ص: 176 ] - عليه السلام -: لعبد الله بن سهل الأنصاري لما خاصم إليه في دم أخيه عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بمحضر من عميه: حويصة، ومحيصة "كبر كبر" يريد: ول الكلام في ذلك الكبير منهما فتكلم حويصة، ثم محيصة، وكان الوارث عبد الله دونهما، وكانا وكيلين.

                                                                                                                                                                                                                              وأما إذا وكل وكيلا غائبا على طلب حقه فإن ذلك يفتقر إلى قبول الوكيل الوكالة عند الفقهاء، وإذا كانت الوكالة مفتقرة إلى قبول الوكيل فحكم الحاضر والغائب فيها سواء.

                                                                                                                                                                                                                              (فإن قلت): أين القبول في الحديث؟ قلت: عملهم بأمره - عليه السلام - من توفية صاحب الحق حقه قبول منهم لأمره.

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: الحديث دال على جواز الأخذ بالدين، ولا يختلف العلماء في جوازه عند الحاجة، ولا يتعين على طالبه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: هو دال أيضا على جواز قرض الحيوان، وقيل: بمنعه، حكاه الطحاوي . ويحمل الحديث على أنه كان قبل تحريم الربا ثم حرم بعد، وحرم كل قرض جر منفعة، وردت الأشياء المستقرضة إلى أمثالها فلم يجز القرض إلا فيما له مثل، وقد كان أيضا قبل نسخ الربا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو قول أبي حنيفة . [ ص: 177 ]

                                                                                                                                                                                                                              وحاصل الخلاف في استقراض الحيوان ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                              مذهبنا ومذهب مالك وجماهير العلماء جوازه، إلا الجارية التي تحل للمستقرض، فإنه لا يجوز، ويجوز قرضها لمن لا يحل له وطؤها - كمحرمها - وللمرأة، والخنثى.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: مذهب المزني، وابن جرير، وداود: يجوز قرض الجارية وسائر الحيوان لكل أحد.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: مذهب أبي حنيفة والكوفيين والثوري والحسن بن صالح، وروي عن ابن مسعود وعبد الرحمن بن عمرة منعه، وادعى بعضهم نسخه بما قضى به - عليه السلام - في المعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر، إذا وجب عليه قيمة نصيب شريكه ولم يوجب عليه بنصف عبد مثله.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: إعطاؤه من إبل الصدقة يحمل على أنه كان اقترض لنفسه، فلما جاءت إبل الصدقة اشترى منها بعيرا ممن استحقه، فملكه بثمنه وأوفاه متبرعا بالزيادة من ماله، يدل عليه رواية: "اشتروا له".

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إن المقترض كان بعض المحتاجين اقترض لنفسه فأعطاه من الصدقة حين جاءت، وهذا يرد قول من قال: كان يهوديا أو أنه اقترضه لبعض نوائب المسلمين، لا أنه اقترضه لحاجة نفسه، وعبر الراوي عن ذلك مجازا، إذ كان هو الآمر.

                                                                                                                                                                                                                              وأما على قول من ادعى أن ذلك قبل تحريم الصدقة عليه ففاسد؛ لأنها لم تزل محرمة عليه، وذلك من خصائصه وعلامة نبوته المذكورة في [ ص: 178 ] الكتب القديمة، بدليل قصة سلمان. وقيل: يحمل على أن الذي استقرض منه كان من أهل الصدقة، فدفع إليه الرباعي لوجهين: وجه القرض، ووجه الاستحقاق، وهو أحسنها أن يكون استقرض البكر على ذمته فدفعه لمستحق، وكان غارما، فلما جاءت إبل الصدقة أخذ منها بما هو غارم، فدفعه فيما كان عليه أداء في ذمته وحسن قضاء ما يملكه، وهذا كله كما يروى أنه - عليه السلام - أمر ابن عمرو أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، فظاهره أنه أخذ على ذمته.

                                                                                                                                                                                                                              (فإن قلت): كيف يجوز أن يؤدي ديته ويبرئ ذمته بما لا يجوز له أخذه؟

                                                                                                                                                                                                                              قلت: لما لم يأخذه ابن عمرو لنفسه صار بمنزلة من ضمنه في ذمته إلى وقت مجيء الصدقة، فلو لم يجئ منها شيء لضمنه لقرضه من ماله. [ ص: 179 ]

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: قوله: ("أحسنكم قضاء") ورد أيضا: "أحاسنكم" وهو جمع أحسن، وورد: "محاسنكم" بالميم. قال عياض : جمع محسن بفتح الميم. كمطلع، ومطالع، والأول أكثر.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: ليس فعله في الزيادة من القرض الذي يجر المنفعة؛ لأن المنهي عنه ما كان مشروطا في عقد القرض، ومذهبنا أنه تستحب الزيادة في الأداء، ويجوز للمقرض أخذها سواء زاد في الصفة، أو العدد. ومذهب مالك أن الزيادة في العدد منهي عنها.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها: من آذى السلطان بجفاء وشبهه، فإن لأصحابه أن يعاقبوه وينكروا عليه وإن لم يأمرهم بذلك، إذ في الحديث الآتي بعد أنه أغلظ له وهم به أصحابه فقال: "إن لصاحب الحق مقالا" أي: صولة الطلب، وقوة الحجة، لكن على من يمطل أو يسيء المعاملة، وأما من أنصف من نفسه فبذل ما عنده واعتذر عما ليس عنده، فلا يجوز الاستطالة عليه بحال.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية