الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني: عن أحكام الزنا. واعلم أنه كان في أول الإسلام عقوبة الزاني الحبس إلى الممات في حق الثيب، والأذى بالكلام في حق البكر . قال الله تعالى : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) [النساء: 15، 16] ثم نسخ ذلك فجعل حد الزنا على الثيب الرجم، وحد البكر الجلد والتغريب، ولنذكر هاتين المسألتين:

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى: الخوارج أنكروا الرجم واحتجوا فيه بوجوه.

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها: قوله تعالى : ( فعليهن نصف ما على المحصنات ) [النساء: 25] فلو وجب الرجم على المحصن لوجب نصف الرجم على الرقيق، لكن الرجم لا نصف له.

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها: أن الله سبحانه ذكر في القرآن أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة، ولم يستقص في أحكامها كما استقصى في بيان أحكام الزنا، ألا ترى أنه تعالى نهى عن الزنا بقوله: ( ولا تقربوا الزنا ) [الإسراء: 32] ثم توعد عليه ثانيا بالنار كما في كل المعاصي، ثم ذكر الجلد ثالثا، ثم خص الجلد بوجوب إحضار المؤمنين رابعا، ثم خصه بالنهي عن الرأفة عليه بقوله: ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله ) خامسا، ثم أوجب على من رمى مسلما بالزنا ثمانين جلدة. وسادسا، لم يجعل ذلك على من رماه بالقتل والكفر وهما أعظم منه، ثم قال سابعا: ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) [النور: 4]، ثم ذكر ثامنا من رمى زوجته بما يوجب [ ص: 118 ] التلاعن واستحقاق غضب الله تعالى ، ثم ذكر تاسعا أن ( والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) [النور: 3]، ثم ذكر عاشرا أن ثبوت الزنا مخصوص بالشهود الأربعة , فمع المبالغة في استقصاء أحكام الزنا قليلا وكثيرا لا يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم آثارها، ومعلوم أن الرجم لو كان مشروعا لكان أعظم الآثار، فحيث لم يذكره الله تعالى في كتابه دل على أنه غير واجب.

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها: قوله تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا ) يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة، وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو غير جائز; لأن الكتاب قاطع في متنه، وخبر الواحد غير قاطع في متنه، والمقطوع راجح على المظنون.

                                                                                                                                                                                                                                            واحتج الجمهور من المجتهدين على وجوب رجم المحصن ; بما ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك، قال أبو بكر الرازي : روى الرجم أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد ، في آخرين من الصحابة، وبعض هؤلاء الرواة روى خبر رجم ماعز، وبعضهم خبر اللخمية والغامدية، وقال عمر رضي الله عنه : "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله ، لأثبته في المصحف".

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عما احتجوا به أولا أنه مخصوص بالجلد. فإن قيل: فيلزم تخصيص القرآن بخبر الواحد . قلنا: بل بالخبر المتواتر؛ لما بينا أن الرجم منقول بالتواتر، وأيضا فقد بينا في أصول الفقه أن تخصيص القرآن بخبر الواحد جائز. والجواب عن الثاني أنه لا يستبعد تجدد الأحكام الشرعية بحسب تجدد المصالح، فلعل المصلحة التي تقتضي وجوب الرجم حدثت بعد نزول تلك الآيات.

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثالث أنه نقل عن علي عليه السلام أنه كان يجمع بين الجلد والرجم، وهو اختيار أحمد وإسحاق وداود، واحتجوا عليه بوجوه.

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها: أن عموم هذه الآية يقتضي وجوب الجلد, والخبر المتواتر يقتضي وجوب الرجم ، ولا منافاة ، فوجب الجمع.

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها: قوله عليه السلام : " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة "

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها: روى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر " أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد, ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محصنا فأمر به فرجم ".

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها: روي أن عليا عليه السلام جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن أكثر المجتهدين متفقون على أن المحصن يرجم ولا يجلد، واحتجوا عليه بأمور.

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها: قصة العسيف فإنه عليه السلام قال: " يا أنيس اغد إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " ولم يذكر الجلد, ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره.

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها: أن قصة ماعز رويت من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جلد، ولو كان الجلد معتبرا مع الرجم لجلده النبي عليه السلام ، ولو جلده لنقل كما نقل الرجم; إذ ليس أحدهما بالنقل أولى من الآخر، وكذا في قصة الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت ولو جلدها لنقل ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها: ما روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه : قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى, فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ، وقد قرأنا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمنا بعده. فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هو الرجم, ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره. أما الجواب عن التمسك بالآية: فهو أنها مخصوصة في حق المحصن، وتخصيص عموم القرآن بالخبر المتواتر غير ممتنع، وأما قوله عليه السلام : " الثيب بالثيب جلد مائة ورجم [ ص: 119 ] بالحجارة " فلعل ذلك كان قبل قوله : " يا أنيس اغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " وأما أنه عليه السلام جلد امرأة ثم رجمها، فلعله عليه السلام ما علم إحصانها فجلدها، ثم لما علم إحصانها رجمها، وهو الجواب عن فعل علي عليه السلام ، فهذا ما يمكن من التكلف في هذه الأجوبة والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية