الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء تنزيه له - عز وجل - مما وصفوه به تعالى وتعجيب عما قالوا في شأنه عز شأنه، والفاء جزائية أي إذا علم ذلك فسبحان، أو سببية، لأن ما قبل سبب لتنزيهه سبحانه، والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت فهو الملك التام، وفي تعليق "سبحان" بما في حيزه إيماء إلى أن كونه تعالى مالكا للملك كله قادرا على كل شيء مقتض للتسبيح، وفسر الملكوت أيضا بعالم الأمر والغيب، فتخصيصه بالذكر قيل لاختصاص التصرف فيه به تعالى من غير واسطة بخلاف عالم الشهادة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ طلحة والأعمش "ملكة" على وزن شجرة أي بيده ضبط كل شيء، وقرئ "مملكة" على وزن مفعلة، وقرئ "ملك". وإليه ترجعون لا إلى غيره تعالى وهذا وعد للمقرين ووعيد للمنكرين فالخطاب عام للمؤمنين والمشركين، وقيل هو وعيد فقط على أن الخطاب للمشركين لا غير توبيخا لهم ولذا عدل عن مقتضى الظاهر وهو وإليه يرجع الأمر كله ففيه دلالة على أنهم استحقوا غضبا عظيما. وقرأ زيد بن علي "ترجعون" مبنيا للفاعل.

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ما لخص من كلامهم في هذه الآيات الكريمة وفيها دلالة واضحة على المعاد الجسماني وإيماء إلى دفع بعض الشبه عنه، وهذه المسألة من مهمات مسائل الدين وحيث إن هذه السورة الكريمة قد تضمنت من أمره ما له كانت عند أجلة العلماء الصدور قلب القرآن لا بأس بأن يذكر في إتمام الكلام فيها ما للعلماء في تحقيق أمر ذلك، فأقول طالبا من الله - عز وجل - التوفيق إلى القول المقبول: اعلم أولا أن المسلمين اختلفوا في أن الإنسان ما هو؟ فقيل: هو هذا الهيكل المحسوس مع أجزاء سارية فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم، وهي جسم لطيف نوراني مخالف بالحقيقة والماهية للأجسام التي منها ائتلف هذا الهيكل، وإن كان لسريانه فيه بشبهه صورة، ولا نعلم حقيقة هذا الجسم وهو الروح المشار إليها بقوله تعالى: قل الروح من أمر ربي عند معظم السلف الصالح وبينه وبين البدن علاقة يعبر عنها بالروح الحيواني وهو بخار لطيف، إذا فسد وخرج عن الصلاحية لأن يكون علاقة تخرج الروح عن البدن خروجا اضطراريا وتزول الحياة، وما دام باقيا على الوجه الذي يصلح به لأن يكون علاقة تبقى الروح والحياة، وهذا الجسم المعبر عنه بالروح على ما قال الإمام القرطبي في التذكرة مما له أول وليس له آخر؛، بمعنى أنه لا يفنى وإن فارق البدن المحسوس، وذكر فيها أن من قال إنه يفنى فهو ملحد، وقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع النفس الناطقة التي هي جوهر مجرد بل هو الإنسان حقيقة على ما صرح به بعضهم، وإلى إثبات هذا الجوهر ذهب الحليمي والغزالي والراغب وأبو زيد الدبوسي ومعمر من قدماء المعتزلة وجمهور متأخري الإمامية وكثير من الصوفية وهو الروح الأمرية وليست داخلة البدن ولا خارجة عنه فنسبتها إليه نسبة الله - سبحانه وتعالى - إلى العالم وهي بعد حدوثها الزماني عندهم لا تفنى أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      ورد هذا المذهب ابن القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه، وكما اختلفوا في ذلك اختلفوا في أن البدن هل يتفرق بعد الموت فقط أم يتفرق وتعدم ذاته؟ بكل قال بعض، ولعل من قال بالثاني استثنى عجب الذنب لصحة خبر [ ص: 58 ] استثنائه من البلى، وكل هؤلاء المختلفين اتفقوا على القول بالحشر الجسماني إلا أن منهم من قال بالحشر الجسماني فقط بمعنى أنه لا يحشر إلا جسم؛ إذ ليس وراء الجسم عندهم جوهر مجرد يسمى بالنفس الناطقة، ومنهم من قال بالحشر الجسماني والحشر الروحاني معا بمعنى أنه يحشر الجسم متعلقا به أمر ليس بجسم هو النفس الناطقة وكل من أصحاب هذين القولين منهم من يقول بأن البدن إذا تفرق تجمع أجزاؤه يوم القيامة للحشر، وتقوم فيها الروح أو تتعلق كما في الدنيا، بل القيام أو التعلق هناك أتم إذ لا انقطاع له أصلا بعد تحققه، فالحشر عند هؤلاء بجمع الأجزاء المتفرقة وعود قيام الروح أو تعلقها إليها، والمراد بالأجزاء الأجزاء الأصلية وهي أجزاء البدن حال نفخ الروح فيه في الدنيا لا الذرة التي أخذ عليها العهد يوم ألست بربكم كما قيل: والله تعالى قادر على حفظها من التحلل والتبدل وكذا على حفظها من أن تكون أجزاء بدن آخر وإن تفرقت في أقطار الأرض واختلطت بالعناصر، وقيل: يجوز أن تكون الأجزاء الأصلية يقبضها الملك بإذن الله تعالى عند حضور الموت فلا يتعلق بها الأكل، ولا تختلط بالتراب، ولا يحصل منها نماء نبات أو حيوان، وهو مجرد احتمال لا دليل عليه بل مخالف لقوله سبحانه: قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فإنه ظاهر في أن المحشور أجزاء رميمة مخلوطة بالتراب، ويجوز أن تكون الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الترابية التي ينثرها الملك في الرحم على المني كما ورد في الحديث الصحيح وهو لا ينثر ترابا واحدا مرتين ويحشر البدن بعد الجمع على أكمل حالاته كما يشير إليه قوله - عليه الصلاة والسلام - "يحشر الناس حفاة عراة غرلا"، ثم يزاد في أجساد أهل الجنة فيكون أحدهم كآدم - عليه السلام - طولا وعرضا، وكذا يزاد في أجساد أهل النار خلافا للمعتزلة حتى أن سن أحدهم لتكون كجبل أحد، وجاء كل من الزيادتين في الحديث، فالمقطوع أو المجذوع مثلا لا يحشر إلا كاملا كما كان قبل القطع أو الجذع، ومن خلق في الدنيا بأربع أيد مثلا يحشر على ما هو المعتاد المعروف في بني نوعه، وكذا من خلق بلا يد أو رجل مثلا، والقول بأنه يلزم تعذيب جسد لم يعص وترك تعذيب جسد عصى ناشئ عن غفلة عظيمة؛ إذ المعذب إنما هو الروح وهو الذي عصى، ولا يعقل العصيان والتعذيب لنفس الجسد، وحرقه بالنار ليس تعذيبا له نفسه، وإلا لكان حرق الخشب تعذيبا له؛ بل هو وسيلة إلى تعذيب الروح، وهذا كما لو جعل شخص في صندوق حديد - مثلا - ووضع في النار، أو لف في ثوب وضرب بالسياط حتى تخرق الثوب، فالروح بمنزلة هذا الشخص والجسد بمنزلة الصندوق أو الثوب، وعلى القول بأن لكل شيء حياة لائقة به لا يلزم التعذيب أيضا إذ ليس كل حي تؤلمه النار، واعتبر ذلك بالسمند وبالنعامة وكذا بخزنة جهنم وحياتها وعقاربها والعياذ بالله عز وجل. ومنهم من يقول: إن البدن يعدم لا أنه تتفرق أجزاؤه فقط ثم يعاد للحشر بعينه، ومنهم من يقول يعدم ثم يخلق يوم القيامة مثله فتقوم فيه الروح أو تتعلق به. واستدل للقول الأول بقوله تعالى: قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فإنه ظاهر في أن العظام لا تعدم ذواتها في الخارج ولا يكاد يفهم من الرميم أكثر من تفرق الأجزاء، وكأن المنكرين استبعدوا جمعها فأشير إلى دفع استبعادهم بأن الإنشاء أبعد، وقد وقع ثم دفع ما عسى يتوهم من أن اختلاط الأجزاء بعد تفرقها وعودها إلى عناصرها يوجب عدم تميزها فلا يتيسر جمعها بقوله سبحانه: وهو بكل خلق عليم ثم أشير إلى دفع ما يتوهم من أن الإنشاء كان تدريجيا نقلت فيه الأجزاء من حالة إلى حالة حتى حصل استعدادها للحياة ومناسبتها للروح، ولا كذلك ما يكون [ ص: 59 ] يوم القيامة فلا مناسبة بين الأجزاء التي تجمع وبين الروح والحياة، فلا يلزم من صحة الإنشاء صحة الحشر بقوله تعالى: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وحيث كان هذا معروفا بينهم يشاهده الكبير والصغير منهم أشار سبحانه إلى الدفع به؛ وإلا فإنشاؤه تعالى لما يكون بالتولد من الحيوان كالفأر والذباب دافع لذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الناس من زعم أن ما يكون قبيل الساعة من الزلازل وإنزال مطر كمني الرجال ونحو ذلك لتحصيل استعداد للروح في تلك الأجزاء، وهو مما لا يحتاج إلى التزامه، وكذا استدل لذلك القول بما أرشد إليه إبراهيم - عليه السلام - حين قال رب أرني كيف تحي الموتى وبقوله تعالى: أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه إلى غير ذلك من الآيات، وفي الأخبار ما يقتضيه أيضا، واستدل لدعوى أن البدن يعدم ذاتا في القول الثاني بقوله سبحانه: كل شيء هالك إلا وجهه وقوله تعالى: كل من عليها فان ورد بأنه يجوز أن يكون التفرق هلاكا، بل قال بعض المحققين: إن معنى الآية كل شيء ليس بموجود في الحال في حد نفسه إلا ذات الواجب تعالى بناء على أن وجود الممكن مستفاد من الغير فلا وجود فيه مع قطع النظر عن الغير بخلاف وجود الواجب تعالى فإنه من ذاته سبحانه بل عين ذاته، ويقال نظير ذلك في الآية الثانية لو سلم دخول البدن في عموم "من"، واستدل لدعوى أنه يخلق يوم القيامة مثله في القول الثالث بقوله تعالى: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وأجيب بأن المراد مثلهم في الصغر والقماة على ما سمعت فيما تقدم، ولا يراد أنه تعالى قادر على أن يخلق يوم القيامة مثل أبدانهم التي كانت في الدنيا ويعيد أرواحهم إليها إذ لا يكاد يفهم هذا من الآية، ولا داعي لالتزام القول بأن الحشر بخلق مثل البدن السابق، وإن قيل بأن ذلك البدن تعدم ذاته في الخارج. ومن الناس من توهم وجوب التزامه إن قيل بذلك لاستحالة إعادة المعدوم.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل على الاستحالة بأنه لو أعيد لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال.

                                                                                                                                                                                                                                      ورد بناء على أن الوقت ليس من المشخصات المعتبرة في الوجود بأنا لا نسلم أن التخلل هاهنا محال؛ لأن معناه أنه كان موجودا زمانا ثم زال عنه الوجود في زمان آخر، ثم اتصف بالوجود في الزمان الثالث، وهو في الحقيقة تخلل العدم وقطع الاتصال بين زماني الوجود، ولا استحالة فيه لوجود الطرفين المتغايرين بالذات إنما المحال تخلل العدم بين ذات الشيء ونفسه بمعنى قطع الاتصال بين الشيء ونفسه بأن يكون الشيء موجودا ولم يكن نفسه موجودا ثم يوجد نفسه، وهاهنا ليس كذلك فإن الشيء وجد مع نفسه في الزمان الأول، ثم اتصف مع نفسه بالعدم في الزمان الآخر، ثم اتصف بالوجود مع نفسه في الزمان الثالث، فلم يتحقق قطع الاتصال بين الشيء ونفسه في زمان من الأزمنة وهل هذا إلا كلبس شخص ثوبا معينا ثم خلعه ثم لبسه. واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لجاز إعادته مع مثله من كل وجه، واللازم باطل لأن المتماثلين إما أن يكون أحدهما معادا دون الآخر وذلك باطل مستلزم للتحكم والترجيح بلا مرجح. وإما أن يكونا معادين وهو أيضا باطل مستلزم لاتحاد الاثنين، وإما أن لا يكون شيء منهما معادا وهو أيضا باطل مستلزم خلاف المفروض إذ قد فرض كون أحدهما معادا، وفيه أنه لا يتم إلا بإثبات فقدان الذات وبطلان الهوية فيما بين الوجودين السابق واللاحق فإنه مدار لزوم التحكم، ويجوز أن يقال: الشيء إذا عدم في الخارج بقي في نفس الأمر بحسب وجوده الذهني فيحفظ وحدته الشخصية بحسب ذلك الوجود كما لو كان متميزا ثابتا في العدم ثبوتا منفكا عن الوجود الخارجي كما [ ص: 60 ] ذهب إليه المعتزلة وموافقوهم، وزعم أن وحدته الشخصية غير محفوظة في الذهن إذ لا وحدة بدون الوجود ولا وجود بدون التشخص سواء كان وجودا خارجيا أو ذهنيا، والهوية الذهنية إنما تكون موجودة في الذهن بمشخصاتها الذهنية وهي بتلك المشخصات ليست هوية خارجية وإلا لزم اتصاف الهوية الخارجية بالعوارض المختصة بالوجود الذهني وهو ضروري البطلان بل بشرط تجريدها عنها، وقولهم باتحادها معها بمعنى أنها بعد التجريد عينها فليست إياها مطلقا بالفعل يتجه عليه أنه ليس معنى تجريد الهوية عن مشخصاتها جعلها خالية عنها في الواقع بل معناه قطع النظر عنها وعدم اعتبارها، ولا يلزم من عدم اعتبارها اعتبار عدمها فضلا عن عدمها في الواقع، وقطع النظر لا يمنع من الاتحاد في الواقع، والقول بأن قولنا: هذا معاد وهذا مبدأ قضية شخصية خارجية يتوقف صدقها على وجود الموضوع في الخارج لا ذهنية يكفي في صدقها وجود الموضوع في الذهن فقط، فلا بد من انحفاظ الوحدة في الخارج ولا يكفي انحفاظها في الذهن يتجه عليه أن صدق الحكم الذهني كاف في اندفاع التحكم. فتدبر! وقيل: كما أن المعدوم موجود في الذهن كذلك المبتدأ المفروض موجود فيه أيضا فليست نسبة الموجود الثاني إلى المعدوم السابق أولى من نسبته إلى المبتدأ المفروض. وتعقب بأن فيه بحثا، أما على مذهب الفلاسفة فلأن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك عندهم بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها بزعمهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد عدمه بخلاف المستأنف فإنه ليس له تلك الصورة قبل وجوده بصورته الجزئية، فإذا وجد بتلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا وجد بالصورة الكلية كان مستأنفا، وأما على مذهب الأشاعرة من المتكلمين فلأن للمعدوم أيضا صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد تعالى شأنه وليس تلك الصورة للمستأنف وجوده فإنها - وإن كانت جزئية - حقيقية أيضا، إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر، ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصورة الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له سبحانه بواسطة تعلق البصر بالطريق الأولى، والقول بأن نسبة الصورة الخيالية وما هو بمنزلتها إلى كل من المعاد والمستأنف سواء أيضا فتكون الوحدة المحفوظة نوعية لا شخصية يلزم عليه أن لا تكون الصورة الخيالية جزئية بل كلية، وهو خلاف ما صرحوا.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لما حصل القطع بحدوث شيء؛ إذ يجوز أن يكون لكل ما نعتقده حادثا وجود سابق يعدم تارة ويعاد أخرى، واللازم باطل باتفاق العقلاء. وتعقب بأن التجويز العقلي لا ينكر، إلا أن الأصل عدم الوجود السابق، وبه يحصل نوع من العلم، ولعل ذلك من قبيل علمنا بأن جبل أحد لا ينقلب ذهبا مع تجويز العقل انقلابه، وبالجملة أدلة استحالة إعادة المعدوم غير سليمة من القوادح كما لا يخفى على من راجع المطولات من كتب الكلام، وقد أشير فيما تقدم من الآيات إلى دفع شبهة عدم انحفاظ الوحدة الشخصية بقوله تعالى وهو بكل خلق عليم ، والذي يترجح من هذه المذاهب أن الحشر بجمع الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره، وهي إما أجزاء عنصرية أكثرها ترجع إلى التراب وتختلط به كما تختلط سائر الأجزاء بعناصره، أو أجزاء ترابية فقط على ما سمعت فيما تقدم غير بعيد، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه إذ حديث العناصر الأربعة وتركب البدن منها - لا سيما حديث عنصر النار - لم يصح [ ص: 61 ] فيه شيء من الشارع صلى الله عليه وسلم ولم يذكر في كتب السلف بل هو شيء ولع فيه الفلاسفة، على أن أصحاب الفلسفة الجديدة نسمعهم ينكرون كرة النار التي قال بها المتقدمون، فالأجزاء الأصلية بعد أن تتفرق وتصير ترابا يجمعها الله تعالى حيث كانت وهو سبحانه بها عليم ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، وهذا إن ضم إليه القول بإعادة الصورة التي هي جزء جوهري من الجسم عند القائلين بتركبه منها ومن الهيولى أو العوارض المختصة بالأنواع التي هي جزء من أفراد النوع كالصورة النوعية الجوهرية كما هو مذهب النافين لتركب الجسم من الهيولى والصورة من المتكلمين - يتوقف القول به على جواز إعادة المعدوم، وإذا لم يضم إليه ذلك بل اكتفي بالقول بجمع الأجزاء الأصلية العنصرية وتشكيلها بشكل مثل الشكل الأول وتحليتها بعوارض مشابهة للعوارض السابقة - لم يتوقف القول به على ذلك أصلا، والمغايرة في الشكل وعدم اتحاد العوارض بالذات مما لا يضر في كون المحشور هو المبدأ شرعا وعرفا، ولا يلزم على ذلك التناسخ المصطلح كما لا يخفى. وفي أبكار الأفكار للآمدي بعد التفصيل المشبع بذكر الآيات والأحاديث الدالة على وقوع المعاد الجسماني: "والأدلة السمعية في ذلك لا يحويها كتاب، ولا يحصرها خطاب، وكلها ظاهرة في الدلالة على حشر الأجساد ونشرها، مع إمكان ذلك في نفسه، فلا يجوز تركها من غير دليل، لكن هل الإعادة للأجسام بإيجادها بعد عدمها؟ أو بتأليف أجزائها بعد تفرقها؟ فقد اختلف فيه، والحق إمكان كل واحد من الأمرين، والسمع موجب لأحدهما من غير تعيين. وبتقدير أن تكون الإعادة للأجسام بتأليف أجزائها بعد تفرقها، فهل تجب إعادة عين ما تقضى ومضى من التأليفات في الدنيا؟ أو أن الله تعالى يجوز أن يؤلفها بتأليف آخر؟ فذهب أبو هاشم إلى المنع من إعادتها بتأليف آخر مصيرا منه إلى أن جواهر الأشخاص متماثلة؛ وإنما يتميز كل واحد من الأجزاء بتعيينه وتأليفه الخاص، فإذا لم يعد ذلك التأليف الخاص به فذلك الشخص لا يكون هو العائد بل غيره، وهو مخالف حينئذ لما ورد به السمع من حشر أجساد الناس على صورهم، ومذهب من عداه من أهل الحق أن كل واحد من الأمرين جائز عقلا ولا دليل على التعيين من سمع وغيره، وما قيل من أن تعين كل شخص إنما هو بخصوص تأليفه غير مسلم بل جاز أن يكون بلونه أو بعض آخر مع التأليف. ومذهب أبي هاشم أنه لا تجب إعادة غير التأليف من الأعراض، فما هو جوابه عن غير التأليف فهو جواب لنا في التأليف، وما ورد من حشر الناس على صورهم ليس فيه ما يدل على إعادة عين ما تقضى من التأليف، ولا مانع أن يكون الإعادة بمثل ذلك التأليف لا عينه" اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم الإمام إجماع المسلمين على المعاد بجمع الأجزائية بعد افتراقها وليس بذاك لما سمعت من الخلاف في كيفيته، وهو مذكور في المواقف وغيره. ومسألة إعادة الأعراض أكثر خلافا من مسألة إعادة الجواهر؛ فذهب معظم أهل الحق إلى جواز إعادتها مطلقا حتى أن منهم من جوز إعادتها في غير محالها. والمعتزلة اتفقوا على جواز إعادة ما كان منها على أصولهم باقيا غير متولد، واختلفوا في جواز إعادة ما لا بقاء له كالحرارة والأصوات والإرادات، فذهب الأكثرون منهم إلى المنع من إعادتها وجوزها الأقلون كالبلخي وغيره. وذهب إلى عدم جواز إعادة المعدوم مطلقا من المسلمين أبو الحسن البصري وبعض الكرامية. ومن الناس من خص المنع فيما عدم ذاتا ووجودا، وجوز فيما عدم وجودا. وإلى القول بالمعاد الجسماني ذهب اليهود والنصارى على ما نص [ ص: 62 ] عليه الدواني؛ لكن ذكر الإمام في المحصل أن سائر الأنبياء سوى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يقولوا إلا بالمعاد الروحاني.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المحقق الطوسي في تلخيصه: أما الأنبياء المتقدمون على نبينا صلى الله عليه وسلم فالظاهر من كلام أممهم أن موسى - عليه السلام - لم يذكر المعاد البدني، ولا أنزل عليه في التوراة، لكن جاء ذلك في كتب الأنبياء الذين جاءوا بعده كحزقيل وشعيا عليهما السلام ولذا أقر اليهود به، وأما الإنجيل فالأظهر أن المذكور فيه المعاد الروحاني وهو مخالف لما سمعت عن الإمام، ويخالفهما ما قاله حجة الإسلام الغزالي في كتابه الموسوم بالمضنون به على غير أهله من أن في التوراة أن أهل الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملائكة وأن أهل النار يمكثون بها كذا وأزيد ثم يصيرون شياطين، فإنه ظاهر في أن موسى - عليه السلام - ذكر المعاد الجسماني ونزل عليه في التوراة، والحق أن الأناجيل مملوءة مما يدل ظاهرا على أن الإنسان يحشر نفسا وجسما وأما التوراة فليس ما ذكر فيها على سبيل التصريح على ما نقل لي بعض المطلعين من مسلمي أهل الكتاب على ذلك وأنكره الفلاسفة الإلهيون وقالوا بالمعاد الروحاني فقط، وهذا الإنكار مبني إما على زعم استحالة إعادة المعدوم فيه ما فيه أو على استحالة عدم تناهي الأبعاد، فإن منهم من قال: الإنسان قديم بالنوع، والنفوس الناطقة غير متناهية كالأبدان فلو قيل بالحشر الجسماني يلزم اجتماع الأبدان غير المتناهية في الوجود إذ لا بد لكل نفس من بدن مستقل فيلزم بعد غير متناه لتجتمع فيه تلك الأبدان غير المتناهية. وقال بعضهم: إن الإنسان أفراده غير متناهية، والعناصر متناهية، فأجزاؤها لا تفي بتلك الأبدان، فكيف تحشر؟.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقب بأن القدم النوعي للإنسان وعدم التناهي لأفراده مما لا يتم لهم عليه برهان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الكمال: بناء استحالة الحشر الجسماني على استحالة عدم تناهي الأبعاد وهم سبق إليه وهم بعض أجلة الناظرين، وليس الأمر كما توهم، فإن حشر الأجساد اللازم على تقدير وقوع المعاد الجسماني هو حشر المكلفين من المطيع المستحق للثواب، والعاصي المستحق للعقاب، لا حشر جميع أفراد البشر مكلفا كان أو غيره، فإنه ليس من ضروريات الدين، لأن الأخبار فيه لم تصل إلى حد التواتر، ولم ينعقد عليه الإجماع وقد نبه عليه المحقق الطوسي في التجريد حيث قال: والسمع دل عليه ويتأول في المكلف بالتفريق، وقال الشارح: يعني لا إشكال في غير المكلفين، فإنه يجوز أن ينعدم بالكلية ولا يعاد، وأما بالنسبة إلى المكلفين فإنه يتأول العدم بتفريق الأجزاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي تلخيص المحصل أيضا حيث قال: وقال القائلون بإمكان إعادة المعدوم: إن الله تعالى يعدم المكلفين ثم يعيدهم، ونبه على ذلك أيضا الآمدي في أبكار الأفكار حيث قرر الخلاف في إعادة المكلف، ولا خفاء في أن عدم تناهي جميع أفراد البشر لا يستلزم عدم تناهي المكلفين منهم ليحتاج أمر حشرهم إلى الأبعاد غير المتناهية اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      والحق الطعن في قولهم بالقدم النوعي وعدم تناهي أفراد الإنسان، وبرهان التطبيق متكفل عندنا بإبطال غير المتناهي اجتمعت أجزاؤه في الوجود أم لم تجتمع، ترتبت أم لم تترتب، وأما قصر الحشر على المكلفين دون غيرهم من المجانين والصغار والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم فليس بشيء، والأخبار في ذلك كثيرة ولعلها من قبيل المتواتر المعنوي على أنها لو لم تكن كذلك لا داعي إلى عدم اعتبارها، والقول بخلاف ما تدل عليه كما لا يخفى. وذهب القدماء من الفلاسفة الطبيعيين إلى عدم ثبوت شيء من الحشر الجسماني والحشر الروحاني، ويحكى ذلك عن التناسخية ما عدا اليهود والتناسخ عندهم غير مستمر بل يقع للنفس الواحدة ثلاث مرات على ما قيل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 63 ] وحكي عن جالينوس التوقف في أمر الحشر فإنه قال: لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج الذي ينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باق بعد فساد البنية فيمكن المعاد، والمشركون في شك منه مريب لذا ترى كلامهم مضطربا فيه، والمسلمون مجمعون على وقوعه إلا أنهم مختلفون كما سمعت في كيفيته وكذا هم مختلفون في وجوبه سمعا أو عقلا، فأهل السنة على وجوبه سمعا مطلقا، والمعتزلة على أنه للمكلفين واجب عقلا لوجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية عندهم وكل من الأمرين يتوقف على الحشر، وفيه نظر والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على تقرير مطالب علية وتضمنت أدلة جليلة جلية؛ ألا ترى أنه تعالى أقسم على كونه صلى الله عليه وسلم أكمل الرسل وأن طريقه أوضح السبل، وأشار سبحانه إلى أن المقصود ما ذكر بقوله تعالى" لتنذر " إلخ ثم بينه إجمالا أنه اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب، وتممه بضرب المثل مدمجا فيه التحريض على التمسك بحبل الكتاب والمنزل عليه وتفضيلهما على الكتب والرسل، والتنبيه عليه ثانيا بأنه عبادة من إليه الرجعى وحده، ثم أخذ في بيان المقدمات بذكر الآيات وأوثر منها الواضحات الدالة على العلم والقدرة والحكمة والرحمة، وضمن فيه أن العبادة شكر المنعم وتلقي النعمة بالصرف في رضاه، والحذر من الركون إلى من سواه، ثم في بيان المتمم بذكر الوعد والوعيد بما ينال في المعاد، وأدرج فيه حديث من سلك ومن ترك وذكر غايتهما، ولخص فيه أن الصراط المستقيم هو عبادة الله تعالى بالإخلاص عن شائبتي الهوى والرياء حيث قدم على الأمر بعبادته تعالى التجنب عن عبادة الشيطان، وضمن فيه أن أساسها التوحيد وكما أنه ذكر الآيات لئلا يكون الكلام خطابيا في المقدمات ختم بالبرهان على الإعادة ليكون على منواله في المتممات وجعل سبحانه ختام الخاتمة أنه - عز وجل - لا يتعاظمه شيء، ولا ينقص خزائنه عطاء، وأنه لا يخرج عن ملكته من قربه قبول أو بعده إباء تحقيقا لكل ما سلف على الوجه الأتم، ولما كان كلاما صادرا عن مقام العظمة والجلال وجب أن يراعى فيه نكتة الالتفات في قوله تعالى وإليه ترجعون ليكون إجمالا لتوضيح التفصيل كذا قرره صاحب الكشف والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية