الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [8] يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون

                                                                                                                                                                                                                                      يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون أي: لمكان غرورهم وجهلهم وشدة ارتيابهم.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهان:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: قال ابن جرير : عني بهذه الآيات كلها -فيما ذكر - عبد الله بن أبي ابن سلول; وذلك أنه قال لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينفضوا. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع ذلك زيد بن أرقم فأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، «فسأله عما أخبر به عنه» ، فحلف أنه ما قال! وقيل له: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أن يستغفر لك، فجعل يلوي رأسه ويحركه استهزاء، ويعني بذلك أنه غير فاعل ما أشاروا به عليه، فأنزل الله عز وجل فيه هذه السورة من أولها إلى آخرها.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أورد ابن جرير الروايات في ذلك. وتقدمه الإمام البخاري ، فأسندها من طرق. ويجمعها كلها ما رواه ابن إسحاق في غزوة بني المصطلق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيع وأظفره الله بهم. قال: فبينا الناس على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له: جهجاه، يقود فرسه. فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: [ ص: 5812 ] يا معشر الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين! فغضب عبد الله بن أبي ابن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم ، غلام حدث، فقال: أوقد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا! والله! ما أعدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضر من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب . فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر ، إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا! ولكن أذن بالرحيل» ، في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها. فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان في قومه شريفا عظيما. فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله! عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قاله الرجل؛ حدبا على ابن سلول ودفعا عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله! والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوما بلغك ما قال صاحبكم» ؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: « عبد الله بن أبي » ! قال: وما قال؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل» ! قال: فأنت يا رسول الله، والله، تخرجه منها إن شئت; هو -والله- الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله! ارفق به، [ ص: 5813 ] فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه به، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا، ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومهم ذلك، حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض، فوقعوا نياما... وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي . ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وقدم المدينة، ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين، في ابن أبي، ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ، ثم قال: هذا الذي أوفى لله بأذنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت غزاة بني المصطلق هذه، في شعبان سنة خمس، كما في "زاد المعاد".

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم قوم أن هذه المقالة كانت في غزوة تبوك. قال الحافظ ابن حجر: وقع في رواية محمد بن كعب عن زيد بن أرقم عند ( النسائي ) أنها غزوة تبوك ويؤيده قوله في رواية زهير : في سفر أصاب الناس فيه شدة. وأخرج عبد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير مرسلا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل منه حتى يصلي فيه: فلما كانت غزوة تبوك، نزل منزلا، فقال عبد الله بن أبي : فذكر القصة.

                                                                                                                                                                                                                                      والذي عليه أهل المغازي أنها غزوة المصطلق. ويؤيده قول جابر ، بعد قوله صلى الله عليه وسلم لعمر : «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد. فهذا مما يوضح وهم من قال: إنها كانت بتبوك؛ لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيرا جدا. وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح في غزوة تبوك، فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وسبقه ابن كثير حيث قال: وقوله -أي: ابن جبير - إن ذلك كان في غزوة تبوك، فيه نظر، بل ليس بجيد، فإن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل [ ص: 5814 ] رجع بطائفة من الجيش. وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير، أن ذلك كان في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التنبيه الثاني: قال الزمخشري : معنى قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      ولله العزة إلخ أي: الغلبة والقوة ولمن أعزه وأيده من رسوله ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك. كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن بعض الصالحات -وكانت في هيئة رثة- ألست على الإسلام، وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه؟

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما، أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها؟ قال: ليس بتيه، ولكنه عزة، وتلا هذه الآية. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الرازي: قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه، وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلها; فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم، والعزة محمودة. ولما كانت غير مذمومة، وفيها مشاكلة للكبر قال تعالى: بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، والوقوف على حد التواضع، من غير انحراف إلى الضعة، وقوف على صراط العزة المنصوب على نار الكبر.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5815 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية