الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

في رجل توفي إلى رحمة الله بالقاهرة، فهل يجوز الصلاة عليه غائبة في مصر أو في القلعة؟ وكم قدر مدة البعد الذي يجوز على الغائب فيه؟ وكم مقدار بعد صلاة النبي على النجاشي؟ وهل النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الغائب أو أحد من الصحابة في مقدار بعد القاهرة إلى مصر أو أحد من الأئمة؟

الجواب

أصل هذه المسألة هي مسألة الصلاة على الغائب، وفيها للعلماء قولان مشهوران:

أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر أصحابه.

والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابن أبي موسى -وهو ثبت في نقل مذهب أحمد - رجحانها في مذهبه. [ ص: 175 ]

وسبب هذا النزاع أنه قد ثبت بالنصوص الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي وكان غائبا، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات، وقال: "استغفروا لأخيكم". وفيهما عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكبر أربعا، وللبخاري عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث. وله: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه". فصففنا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صفوف. ولمسلم: إن أخا لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه"، فقمنا فصفنا صفين. وروى مسلم عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخا لكم"، وفي لفظ: "إن أخاكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه"، يعني النجاشي.

فهذه السنة ثبتت، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على غائب غيره، إلا حديث ساقط روي فيه أنه صلى على معاوية بن معاوية [ ص: 176 ] الليثي في غزوة تبوك لكثرة قراءته " قل هو الله أحد وهو حديث لا يحتج به. وقد مات على عهده خلائق من أصحابه في غيبته فلم يصل عليهم، وكذلك لم يصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صلوا على أبي بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة.

ولهذا تنازع العلماء، فقالت طائفة: لا يصلى على الغائب، إذ لو كانت سنة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك، ولكان المسلمون يعملون بذلك في محياه ومماته، واعتذروا عن قضية النجاشي بعذرين:

أحدهما: أن ذلك كان مختصا به، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشاهده، أو لأنه حمل إلى بين يديه. وهذا عذر ضعيف، لأن ذلك لم ينقله أحد، ولأن الصحابة الذين صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم لم يشاهدوه، ولا فرق بين الإمام والمأموم، ولأن المانع عندهم هو البعد أو التكرار، وكلاهما موجود شهد أو لم يشهد، ولأن مثل هذا قد كان ممكنا في حق غير النجاشي، فبطل الاختصاص به.

ولأن الأصل مشاركة أمته في الأحكام ما لم يقم دليل اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم.

والعذر الثاني: قالوا: إن النجاشي قد كان بين قوم نصارى، [ ص: 177 ] وكان يخفي قومه إسلامه حتى سعوا في محاربته، ولم تكن شريعة الإسلام ظهرت هناك حتى يكون عنده من يصلي عليه، لعدم صلاة القريب عليه. وهذا العذر أقرب من الأول، وبه يظهر تخصيص النجاشي بالصلاة دون غيره من الموتى.

ثم من قال هذا ولم يجوز الصلاة على الغائب بحال نقض كلامه، ومن قال هذا وجوز الصلاة على الغائب الذي لم يصل عليه فقد أحسن فيما قال، ولعل قوله أعدل الأقوال، فإن الشريعة استقرت على قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". فما تعذر من العبادات سقط بالعجز، وإذا كانت الصلاة على الميت مأمورا بها ولم تكن إلا مع الغيبة كانت هي المأمور به.

وقالت طائفة: بل تجوز الصلاة على كل غائب عن البلد وإن كان قد صلي عليه، كما ذكرناه عن أصحاب الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هؤلاء: يجوز على الغائب عن البلد، سواء كان فوق مسافة القصر أو دونها، وسواء كان الميت خلف المصلي أو أمامه.

التالي السابق


الخدمات العلمية