الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأن إلى ربك المنتهى .

القول في موقعها كالقول في موقع جملة وأن سعيه سوف يرى سواء ، فيجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة وأن سعيه سوف يرى فتكون تتمة لما في صحف موسى وإبراهيم ، ويكون الخطاب في قوله إلى ربك التفاتا من الغيبة إلى الخطاب والمخاطب غير معين فكأنه قيل : وأن إلى ربه المنتهى ، وقد يكون نظيرها من كلام إبراهيم ما حكاه الله عنه بقوله وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين .

ويجوز أنها ليست مما اشتملت عليه صحف موسى وإبراهيم ويكون عطفها عطف مفرد على مفرد ، فيكون المصدر المنسبك من " أن " ومعمولها مدخولا للباء ، أي : لم ينبأ بأن إلى ربك المنتهى ، والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 141 ] وعليه فلا نتطلب لها نظيرا من كلام إبراهيم عليه السلام .

ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه المحض الذي لا تلابسه أحكام هي في الظاهر من تصرفات المخلوقات مما هو شأن أمور الدنيا ، فالكلام على حذف مضاف دل عليه السياق .

والتعبير عن الله بلفظ ربك تشريف للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والتعريض بالتهديد لمكذبيه ؛ لأن شأن الرب الدفاع عن مربوبه .

وفي الآية معنى آخر وهو أن يكون المنتهى مجازا عن انتهاء السير ، بمعنى الوقوف ؛ لأن الوقوف انتهاء سير السائر ، ويكون الوقوف تمثيلا لحال المطيع لأمر الله تشبيها لأمر الله الذي تحدد به الحوائط على نحو قول أبي الشيص :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم

كما عبر عن هذا المعنى بالوقوف عند الحد في قوله تعالى تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون . والمعنى : التحذير من المخالفة لما أمر الله ونهى .

وفي الآية معنى ثالث وهو انتهاء دلالة الموجودات على وجود الله ووحدانيته ؛ لأن الناظر إلى الكائنات يعلم أن وجودها ممكن غير واجب فلا بد لها من موجد ، فإذا خيلت الوسوسة للناظر أن يفرض للكائنات موجدا مما يبدو له من نحو الشمس أو القمر أو النار لما يرى فيها من عظم الفاعلية ، لم يلبث أن يظهر له أن ذلك المفروض لا يخلو عن تغير يدل على حدوثه فلا بد له من محدث أوجده فإذا ذهب الخيال يسلسل مفروضات الإلهية كما في قصة إبراهيم فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي الآيات لم يجد العقل بدا من الانتهاء إلى وجوب وجود صانع للممكنات كلها ، وجوده غير ممكن بل واجب ، وأن يكون متصفا بصفات الكمال وهو الإله الحق ، فالله هو المنتهى الذي ينتهي إليه استدلال العقل ، ثم إذا لاح له دليل وجود الخالق وأفضى به إلى إثبات أنه واحد ؛ لأنه لو كان متعددا لكان كل من المتعدد غير كامل الإلهية إذ لا يتصرف أحد المتعدد فيما قد تصرف [ ص: 142 ] فيه الآخر ، فكان كل واحد محتاجا إلى الآخر ليرضى بإقراره على إيجاد ما أوجده ، وإلا لقدر على نقض ما فعله ، فيلزم أن يكون كل واحد من المتعدد محتاجا إلى من يسمح له بالتصرف ، قال تعالى وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض وقال " قل لو كان معه آلهة كما تقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " وقال لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فانتهى العقل لا محالة إلى منتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية