الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        [ ص: 150 ] البحث السادس : في تعارض القول والفعل

                        إذا وقع التعارض بين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله ، وفيه صور .

                        وبيان ذلك : أنه ينقسم أولا إلى ثلاثة أقسام :

                        أحدها : أن يعلم تقدم القول على الفعل .

                        ثانيها : أن يعلم تقدم الفعل على القول .

                        ثالثها : أن يجهل التاريخ .

                        وعلى الأولين إما أن يتعقب الثاني الأول ، بحيث لا يتخلل بينهما زمان أو يتراخى أحدهما عن الآخر ، وهذان قسمان إلى الثلاثة المتقدمة يكون الجميع خمسة أقسام .

                        وعلى الثلاثة الأول إما أن يكون القول عاما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته ، أو خاصا به ، أو خاصا بأمته ، فتكون الأقسام ثمانية .

                        ثم الفعل إما أن يدل دليل على وجوب تكراره في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ووجوب تأسي الأمة به ، أو لا يدل دليل على واحد منهما ، أو يقوم دليل على التكرار دون التأسي ، أو يقوم دليل على التأسي دون التكرار ، فإذا ضربت الأقسام الأربعة وهي التي يعلم فيها تعقب الفعل للقول وتراخيه عنه ، وتعقب القول للفعل وتراخيه عنه في الثلاثة التي ينقسم إليها القول ، من كونه يعم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ، أو يخصه ، أو يخص أمته ، حصل منها اثنا عشر قسما ، نضربها في أقسام الفعل الأربعة بالنسبة إلى التكرار والتأسي ، أو عدمهما ، أو وجود أحدهما دون الآخر ، فيحصل ثمانية وأربعون قسما ، وقد قيل : إن الأقسام تنتهي إلى ستين قسما ، وما ذكرناه أولى ، وأكثر هذه الأقسام غير موجود في السنة ، فلنتكلم هاهنا على ما يكثر وجوده فيها وهي أربعة عشر قسما .

                        الأول : أن يكون القول مختصا به ، مع عدم وجود دليل على التكرار والتأسي ، وذلك نحو أن يفعل صلى الله عليه وآله وسلم فعلا ، ثم يقول بعده : لا يجوز لي مثل هذا [ ص: 151 ] الفعل ، فلا تعارض بين القول والفعل ; لأن القول في هذا الوقت لا تعلق له بالفعل في الماضي ، إذ الحكم يختص بما بعده ، ولا حكم في المستقبل ، إذ لا حكم للفعل في المستقبل ; لأن الغرض عدم التكرار له .

                        القسم الثاني : أن يتقدم القول ، مثل أن يقول : لا يجوز لي الفعل في وقت كذا ، ثم يفعله فيه ، فيكون الفعل ناسخا لحكم القول .

                        القسم الثالث : أن يكون القول خاصا به ، ويجهل التاريخ ، فلا تعارض في حق الأمة ، وأما في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ففيه خلاف ، وقد رجح الوقف .

                        القسم الرابع : أن يكون القول مختصا بالأمة ، وحينئذ فلا تعارض ; لأن القول والفعل لم يتواردا على محل واحد .

                        القسم الخامس : أن يكون القول عاما له وللأمة ، فيكون الفعل على تقدير تأخره مخصصا له من عموم القول ، وذلك كنهيه عن الصلاة بعد العصر ، ثم صلاته الركعتين بعدها قضاء لسنة الظهر ، ومداومته عليهما . وإلى ما ذكرنا من اختصاص الفعل به صلى الله عليه وآله وسلم ذهب الجمهور ، قالوا : وسواء تقدم الفعل أو تأخر .

                        وقال الأستاذ أبو منصور : إن تقدم الفعل ؛ دل على نسخه القول عند القائلين بدخول المخاطب في عموم خطابه ، هذا إذا كان القول شاملا له صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الظهور ، كأن يقول : لا يحل لأحد ، أو لا يجوز لمسلم أو لمؤمن ، وأما إذا كان متناولا له على سبيل التنصيص ، كأن يقول : لا يحل لي ولا لكم ، فيكون الفعل ناسخا للقول في حقه صلى الله عليه وآله وسلم لا في حقنا فلا تعارض .

                        [ ص: 152 ] القسم السادس : أن يدل دليل على تكرار الفعل ، وعلى وجوب التأسي فيه ، ويكون القول خاصا به ، وحينئذ فلا معارضة في حق الأمة ، وأما في حقه فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ ، فإن جهل التاريخ ، فقيل : يؤخذ بالقول في حقه ، وقيل : بالفعل ، وقيل : بالوقف .

                        القسم السابع : أن يكون القول خاصا بالأمة ، مع قيام دليل التأسي والتكرار في الفعل ، فلا تعارض في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما في حق الأمة ، فالمتأخر من القول أو الفعل ناسخ ، وإن جهل التاريخ ، فقيل : يعمل بالفعل ، وقيل : بالقول ، وهو الراجح ; لأن دلالته أقوى من دلالة الفعل ، وأيضا هذا القول الخاص أخص من الدليل العام الدال على التأسي . والخاص مقدم على العام ، ولم يأت من قال بتقدم الفعل بدليل يصلح للاستدلال به .

                        القسم الثامن : أن يكون القول عاما له وللأمة ، مع قيام الدليل على التكرار والتأسي ، فالمتأخر ناسخ في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك في حقنا ، وإن جهل التاريخ ، فالراجح تقدم القول لما تقدم .

                        القسم التاسع : أن يدل الدليل على التكرار في حقه صلى الله عليه وآله وسلم دون التأسي به ، ويكون القول خاصا بالأمة ، وحينئذ فلا تعارض أصلا ; لعدم التوارد على محل واحد .

                        القسم العاشر : أن يكون خاصا به صلى الله عليه وآله وسلم مع قيام الدليل على عدم التأسي به ، فلا تعارض أيضا .

                        القسم الحادي عشر : أن يكون القول عاما له وللأمة ، مع عدم قيام الدليل على التأسي به في الفعل ، فيكون الفعل مخصصا له من العموم ، ولا تعارض بالنسبة إلى الأمة ; لعدم وجود دليل يدل على التأسي به ، وأما إذا جهل التاريخ ، فالخلاف في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ، كما تقدم في ترجيح القول على الفعل ، أو العكس ، أو الوقف .

                        القسم الثاني عشر : إذا دل الدليل على التأسي دون التكرار ، يكون القول مخصصا به ، فلا تعارض في حق الأمة ، وأما في حقه ، فإن تأخر القول فلا تعارض ، وإن تقدم فالفعل ناسخ في حقه ، وإن جهل فالمذاهب الثلاثة في حقه ، كما تقدم .

                        القسم الثالث عشر : أن يكون القول خاصا بالأمة ولا تعارض في حقه صلى الله [ ص: 153 ] عليه وآله وسلم ، وأما في حق الأمة ، فالمتأخر ناسخ لعدم الدليل على التأسي .

                        القسم الرابع عشر : أن يكون القول عاما له وللأمة ، مع قيام الدليل على التأسي دون التكرار ، ففي حق الأمة المتأخر ناسخ ، وأما في حقه صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن تقدم الفعل فلا تعارض ، وإن تقدم القول فالفعل ناسخ .

                        ومع جهل التاريخ ، فالراجح القول في حقنا ، وفي حقه صلى الله عليه وآله وسلم ; لقوة دلالته وعدم احتماله ، ولقيام الدليل هاهنا على عدم التكرار .

                        واعلم أنه لا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي بل يكفي ما ورد في الكتاب العزيز من قوله سبحانه : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وكذلك سائر الآيات الدالة على الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه ، ولا يشترط وجود دليل خاص يدل على التأسي به في كل فعل من أفعاله ، بل مجرد فعله لذلك الفعل بحيث يطلع عليه غيره من أمته ينبغي أن يحمل على قصد التأسي به ، إذا لم يكن من الأفعال التي لا يتأسى به فيها ، كأفعال الجبلة كما قررناه في البحث الذي قبل هذا البحث .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية