الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                      باب تفسير "أنا" و"أنت" و"هو"

                                                                                                                                                                                                                      42- أما قوله: (وإياي فارهبون) [و] : (وإياي فاتقون) [41] فقال: (وإياي) وقد شغلت الفعل بالاسم المضمر الذي بعده الفعل. لأن كل ما كان من الأمر والنهي في هذا النحو فهو منصوب نحو قولك: "زيدا فاضرب أخاه". لأن الأمر والنهي مما يضمران كثيرا ويحسن فيهما الإضمار، والرفع أيضا جائز على ألا يضمر. قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                      (54) وقائلة خولان فانكح فتاتهم وأكرومة الحيين خلو كما هيا

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 84 ] وأما قوله: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما) [و] : (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) فزعموا - والله أعلم - أن هذا على الوحي، كأنه يقول: "ومما أقص عليكم: الزانية والزاني، والسارقة والسارق". ثم جاء بالفعل من بعد ما أوجب الرفع على الأول على الابتداء وهذا على المجاز كأنه قال "أمر السارق والسارقة وشأنهما مما نقص عليكم" ومثله قوله: (مثل الجنة التي وعد المتقون) ثم قال: (فيها أنهار من ماء) كأنه قال: "ومما أقص عليكم: مثل الجنة" ثم أقبل يذكر ما فيها بعد أن أوجب الرفع في الأول على الابتداء. وقد قرأها قوم نصبا إذ كان الفعل يقع على ما هو من سبب الأول، وهو في الأمر والنهي. وكذلك ما وقع عليه حرف الاستفهام نحو قوله: (أبشرا منا واحدا نتبعه) . وإنما فعل هذا في حروف الاستفهام لأنه إذا كان بعده اسم وفعل كان أحسن أن يبدأ بالفعل قبل الاسم، فإن بدأت بالاسم أضمرت له فعلا حتى يحسن الكلام به وإظهار ذلك الفعل قبيح.

                                                                                                                                                                                                                      وما كان من هذا في غير الأمر والنهي والاستفهام والنفي فوجه الكلام فيه الرفع، وقد نصبه ناس من العرب كثير. وهذا الحرف قد قرئ نصبا ورفعا : (وأما ثمود فهديناهم) .

                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) فهو يجوز

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 85 ] فيه الرفع وهي اللغة الكثيرة غير أن الجماعة اجتمعوا على النصب، وربما اجتمعوا على الشيء كذلك مما يجوز والأصل غيره. لأن قولك: "إنا عبد الله ضربناه". مثل قولك: " عبد الله ضربناه" لأن معناهما في الابتداء سواء. قال الشاعر [ بشر بن أبي خازم ] :


                                                                                                                                                                                                                      (55) فأما تميم تميم بن مر     فألفاهم القوم روبى نياما

                                                                                                                                                                                                                      وقال [ ذو الرمة ] :


                                                                                                                                                                                                                      (56) إذا ابن أبي موسى بلال بلغته     فقام بفأس بين وصليك جازر

                                                                                                                                                                                                                      ويكون فيهما النصب. فمن نصب: (وأما ثمود) نصب على هذا.

                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم) وقوله: (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) ثم قال: (والأرض بعد ذلك دحاها) وقال: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) ثم قال: (والسماء رفعها ووضع الميزان) وقال: (وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا) فهذا إنما ينصب وقد سقط الفعل على الاسم بعده لأن الاسم الذي قبله قد عمل فيه فأضمرت فعلا فأعملته فيه حتى يكون العمل من وجه واحد. وكان ذلك أحسن قال [رجل من قيس ]:


                                                                                                                                                                                                                      (57) نغالي اللحم للأضياف نيا     ونطعمه إذا نضج القدور

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 86 ] يريد "نغالي باللحم" فإن قلت: (يدخل من يشاء) ليس بنصب في اللفظ فهو في موضع نصب قد عمل فيه فعل كما قلت: "مررت بزيد وعمرا ضربته، كأنك قلت: "مررت زيدا" وقد يقول هذا بعض الناس. قال الشاعر: [ الربيع بن ضبع الفزاري ] :


                                                                                                                                                                                                                      (58) أصبحت لا أحمل السلاح     ولا أملك رأس البعير إن نفرا
                                                                                                                                                                                                                      والذئب أخشاه إن مررت به     وحدي وأخشى الرياح والمطرا

                                                                                                                                                                                                                      وكل هذا يجوز فيه الرفع على الابتداء والنصب أجود وأكثر.

                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله: (يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) فإنما هو على قوله: "يغشى طائفة منكم وطائفة في هذه الحال". هذه واو ابتداء لا واو عطف، كما تقول: "ضربت عبد الله وزيد قائم". وقد قرئت نصبا لأنها مثل ما ذكرنا، وذلك لأنه قد سقط الفعل على شيء من سببها وقبلها منصوب بفعل فعطفتها عليه وأضمرت لها فعلها فنصبتها به. وما ذكرنا في هذا الباب من قوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) و: (الزانية والزاني فاجلدوا) ليس في قوله: (فاقطعوا) و : (فاجلدوا) خبر مبتدأ لأن خبر المبتدأ هكذا لا يكون بالفاء.

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 87 ] لو قلت " عبد الله فينطلق" لم يحسن، وإنما الخبر هو المضمر الذي فسرت لك من قوله "ومما نقص عليكم" وهو مثل قوله:


                                                                                                                                                                                                                      (59) وقائلة خولان فانكح فتاتهم      .......................

                                                                                                                                                                                                                      كأنه قال: "هؤلاء خولان" كما تقول: "الهلاك فانظر إليه" كأنك قلت: "هذا الهلاك فانظر إليه" فأضمر الاسم.

                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله: (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) فقد يجوز أن يكون هذا خبر المبتدأ؛ لأن "الذي" إذا كان صلته فعل جاز أن يكون خبره بالفاء نحو قول الله عز وجل : (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) ثم قال: (فأولئك مأواهم جهنم) .

                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية