الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) وإذا ارتد الغلام المراهق عن الإسلام لم يقتل ، وهنا فصلان إذا أسلم الغلام العاقل الذي لم يحتلم فإسلامه صحيح عندنا استحسانا ، وفي القياس لا يصح إسلامه في أحكام الدنيا ، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم : { رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم } ، ومن كان مرفوع القلم فلا ينبني الحكم في الدنيا على قوله ، ولأنه غير مخاطب بالإسلام ما لم يبلغ فلا يحكم بصحة إسلامه كالذي لا يعقل إذا لقن فتكلم به ، وتقريره من أوجه : أحدهما : أنه لا عبرة لعقله قبل البلوغ حتى يكون تبعا لغيره في الدين والدار بمنزلة الذي لا يعقل ، وتقرير هذا أنه يحكم بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه مع كونه معتقدا للكفر بنفسه ، فإذا لم يعتبر اعتقاده ، ومعرفته في إبقاء ما كان ثابتا فكيف يعتبر ذلك في إثبات ما لم يكن ثابتا ، وبين كونه أصلا في حكم ، وتبعا فيه بعينه مغايرة على سبيل المنافاة ، والثاني : أنه لو صح إسلامه بنفسه كان ذلك منه فرضا لاستحالة القول بكونه مستقلا في الإسلام ، ومن ضرورة كونه فرضا أن يكون مخاطبا به ، وهو غير مخاطب باتفاق ، فإذا لم يمكن تصحيحه فرضا لم يصح أصلا بخلاف سائر العبادات ، فإنه يتردد بين الفرض والنفل ، وبخلاف ما إذا جعل مسلما تبعا لغيره ; لأن صفة الفرضية في الأصل تغني عن اعتباره في التبع كالإقرار باللسان ، والاعتقاد بالقلب ، ولأن اعتبار عقله قبل البلوغ لضرورة الحاجة إليه ، وذلك يختص بما لا يمكن تحصيله له من قبل غيره ، ففيما يمكن تحصيله له من جهة غيره لا حاجة إلى اعتبار عقله فلا يعتبر ، والدليل عليه أنه لو لم يصف الإسلام بعد ما عقل لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته ، ولو صار عقله معتبرا في الدين لوقعت الفرقة إذا لم يحسن أن [ ص: 121 ] يصف كما بعد البلوغ ، ولأن أحكام الإسلام في الدنيا تنبي على قوله ، وقوله إما أن يكون إقرارا أو شهادة ، ولا يتعلق به حكم الشرع كسائر الأقارير ، والشهادات ، وأما فيما بينه ، وبين ربه إذا كان معتقدا لما يقول : فنحن نسلم أن له في أحكام الآخرة ما للمسلمين .

( وحجتنا ) في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : { حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا } ، وقد أعرب هنا لسانه شاكرا شكورا فلا نجعله كافرا كفورا ، وأن عليا رضي الله عنه أسلم وهو صبي ، وحسن إسلامه حتى افتخر به في شعره قال :

سبقتكم إلى الإسلام طرا غلاما ما بلغت أوان حلمي

، واختلفت الروايات في سنه حين أسلم ، وحين مات فقال محمد بن جعفر : رضي الله عنهما أسلم ، وهو ابن خمس سنين ، ومات وهو ابن ثمانية وخمسين سنة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام في أول مبعثه ، ومدة البعث ثلاث وعشرون سنة ، والخلافة بعده ثلاثون انتهى بموت علي رضي الله عنه ، فإذا ضممت خمسا إلى ثلاث وخمسين فيكون ثمانية وخمسين ، وقال العتيبي : أسلم وهو ابن سبع سنين ، ومات وهو ابن ستين سنة بهذا الطريق أيضا ، وقال الجاحظ : أسلم وهو ابن عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين ، وهكذا ذكره محمد في السير الكبير ، والمعنى فيه أنه أتى بحقيقة الإسلام ، وهو من أهله فيحكم بإسلامه كالبالغ ، وبيان الوصف أن الإسلام اعتقاد بالقلب ، واقرار باللسان ، وهو من أهل الاعتقاد ، ومن رجع إلى نفسه علم أنه كان معتقدا للتوحيد قبل بلوغه ، ولأنه من أهل اعتقاد سائر الأشياء والمعرفة به ، ومن أهل معرفة أبويه والرجوع إليهما إذا حزبه أمر ، فعرفنا ضرورة أنه من أهل معرفة خالقه ، وقد سمعنا إقراره بعبارة مفهومة ، ونحن نرى صبيا يناظر في الدين ، ويقيم الحجج الظاهرة حتى إذا ناظر الموحدين أفهم ، وإذا ناظر الملحدين أفحم ، فلا يظن بعاقل أن يقول : إنه ليس من أهل المعرفة ، والدليل على الأهلية أنه يجعل مسلما تبعا لغيره ، وبدون الأهلية لا يتصور ذلك ، ولأنه مع الصبا أهل للرسالة قال الله تعالى : { وآتيناه الحكم صبيا } فعلم ضرورة أنه أهل للإسلام ثم بعد وجود الشيء حقيقة أنه أن يسقط اعتباره بحجر شرعي فلا يظن ذلك ههنا ، والناس عن آخرهم دعوا إلى الإسلام ، والحجر عن الإسلام كفر أولا يحكم بصحته لضرر يلحقه ، ولا تصور لذلك في الإسلام ، فإنه سبب للفوز والسعادة الأبدية فيكون محض منفعة في الدنيا والآخرة ، وإن حرم ميراث مورثه الكافر أو بانت منه زوجته الكافرة ، فإنما [ ص: 122 ] يحال بذلك على خبثها لا على إسلامه .

ألا ترى أن هذا الحكم يثبت إذا جعل تبعا لغيره ، والتبعية فيما يتمحض منفعة لا فيما يشوبه ضرر ، وإنما جعل تبعا لتوفير المنفعة عليه ، وفي اعتبار منفعته مع إبقاء التبعية معنى توفير المنفعة ; لأنه ينفتح عليه باب تحصيل هذه المنفعة بطريقين فكان ذلك أنفع ، وإنما يمتنع الجمع بين معنى التبعية والأصالة إذا كان بينهما مضادة ، فأما إذا تأيد أحدهما بالآخر فذلك مستقيم كالمرأة إذا سافرت مع زوجها ونوت السفر فهي مسافرة بنيتها مقصودا ، وتبعا لزوجها أيضا ، وإنما لم يعتبر اعتقاده عند إسلام أحد الأبوين لتوفير المنفعة عليه فهذا يدل على اعتبار اعتقاده إذا أسلم مع كفرهما لتوفير المنفعة عليه ، وإنما لم يكن مخاطبا بالأداء لدفع الحرج عنه إذا امتنع من الأداء ، وهذا يدل على أنه يحكم بصحته إذا أدى باعتبار أن عند الأداء يجعل الخطاب كالسابق لتحصيل المقصود كالمسافر لا يخاطب بأداء الجمعة ، فإذا أدى يجعل ذلك فرضا منه بهذا الطريق ، وهذا لأن عدم توجه الخطاب إليه بالإسلام لدفع الضرر ، ولا ضرر عليه إذا أدرج الخطاب بهذا الطريق بل تتوفر المنفعة عليه مع أنه يحكم بإسلامه لوجود حقيقته من غير أن يتعرض لصفته ، وإنما لا تبين زوجته منه إذا لم يحسن أن يصف بعد ما عقل لبقاء معنى التبعية ، ولتوفير المنفعة عليه ، ولا وجه لاعتبار هذا القول بسائر الأقاويل ، ألا نجعله فيها كاذبا أو لاغيا ، وإذا أقر بوحدانية الله تعالى فلا يظن بأحد أن يقول : إنه كاذب في ذلك أو لاغ بل يتيقن بأنه صادق في ذلك فجرينا الحكم عليه ، فأما إذا ارتد هذا الصبي العاقل فأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول : لا تصح ردته ، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وهو القياس ; لأن الردة تضره ، وإنما يعتبر معرفته ، وعقله فيما ينفعه لا فيما يضره .

ألا ترى أن قبول الهبة منه صحيح ، والرد باطل وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى قالا يحكم بصحة ردته استحسانا لعلته لا لحكمه ، فإن من ضرورة اعتبار معرفته والحكم بإسلامه بناء على علته اعتبار ردته أيضا ; لأنه جهل منه بخالقه ، وجهله في سائر الأشياء معتبر حتى لا يجعل عارفا إذا علم جهله به فكذلك جهله بربه ، ولأن من ضرورة كونه أهلا للعقد أن يكون أهلا لرفعه كما أنه لما كان أهلا لعقد الإحرام والصلاة كان أهلا للخروج منهما ، وإنما لم يصح منه رد الهبة لما فيه من نقل الملك إلى غيره .

ألا ترى أن ضرر الردة يلحقه بطريق التبعية إذا ارتد أبواه ولحقا به بدار الحرب ، وضرر رد الهبة لا يلحقه من جهة أبيه ، فبهذا يتضح الفرق بينهما ، وإذا حكم بصحة [ ص: 123 ] ردته بانت منه امرأته ، ولكنه لا يقبل استحسانا ; لأن القتل عقوبة ، وهو ليس من أهل أن يلتزم العقوبة في الدنيا بمباشرة سببها كسائر العقوبات ، ولكن لو قتله إنسان لم يغرم شيئا ; لأن من ضرورة صحة ردته إهدار دمه ، وليس من ضرورته استحقاق قتله كالمرأة إذا ارتدت لا تقتل ، ولو قتلها قاتل لم يلزمه شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية