الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2273 19 - باب الولد للفراش

                                                              190 \ 2178 - عن عائشة رضي الله عنها قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة، فقال سعد : أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه، فإنه ابنه. وقال عبد بن زمعة : أخي، ابن أمة أبي، ولد على فراش أبي، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبها بينا بعتبة، فقال : الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة [ ص: 565 ] وفي رواية قال: هو أخوك يا عبد .

                                                              وأخرجه البخاري والنسائي ومسلم وابن ماجه.

                                                              قيل في خصومتهما : إن أهل الجاهلية كان يكون لهم إماء يبغين، وفيه نزل قوله تعالى: ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ، وكانت السادة تأتي الإماء في خلال ذلك. فإذا أتت إحداهن بولد فربما يدعيه السيد وربما يدعيه الزاني. فإن مات السيد ولم يكن ادعاه ولا أنكره، فادعاه ورثته لحق به، إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه قبل القسمة، وإن كان السيد قد أنكره لم يلحق به بحال.

                                                              وكان لزمعة بن قيس (والد سودة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أمة على ما وصف، من أن عليها ضريبة وهو يلم بها، فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة أخي سعد بن أبي وقاص، وهلك كافرا، فعهد إلى أخيه سعد قبل موته فقال: استلحق الحمل الذي بأمة زمعة. فلما استلحقه سعد خاصمه عبد بن زمعة، فقال سعد: هو ابن أخي، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وقال عبد: بل هو أخي، ولد على فراش أبي، يشير إلى ما استقر عليه الحكم في الإسلام، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة إبطالا لحكم الجاهلية .

                                                              [ ص: 566 ]

                                                              التالي السابق


                                                              [ ص: 566 ] قال ابن القيم رحمه الله: وقد أشكل هذا الحديث على كثير من الناس، من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سودة بالاحتجاب منه، وقد ألحقه بزمعة فهو أخوها، ولهذا قال الولد للفراش ؛ قالوا: فكيف يكون أخاها في الحكم وتؤمر بالاحتجاب منه ؟

                                                              فقال بعضهم: هذا على سبيل الورع لأجل الشبه الذي رآه بعتبة.

                                                              وقال بعضهم: إنما جعله عبدا لزمعة، قال: والرواية " هو لك عبد " فإنما جعله عبدا لعبد بن زمعة لكونه رأى شبهه بعتبة، فيكون منه غير لاحق بواحد منهما فيكون عبدا لعبد بن زمعة، إذ هو ولد زنا من جارية زمعة.

                                                              وهذا تصحيف منه وغلط في الرواية والمعنى، فإن الرواية الصحيحة: هو لك يا عبد بن زمعة ، ولو صححت رواية " هو لك عبد " فإنما هي على إسقاط حرف النداء، كقوله تعالى: يوسف أعرض عن هذا ، ولا يتصور أن يجعله عبدا له وقد أخبره أنه ولد على فراش أبيه، ويحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الولد للفراش.

                                                              وهذه الزيادة التي ذكرها أبو داود وهي قوله : هو أخوك يا عبد ترفع الإشكال، ورجال إسنادها ثقات. ولو لم تأت فالحديث إنما يدل على إلحاقه بعبد أخا له.

                                                              [ ص: 567 ] وأما أمره سودة - وهي أخته - بالاحتجاب منه فهذا يدل على أصل وهو تبعيض أحكام النسب، فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره، ولا يكون أخاها في المحرمية والخلوة والنظر إليها؛ لمعارضة الشبه للفراش، فأعطى الفراش حكمه من ثبوت الحرمة وغيرها، وأعطى الشبه حكمه من عدم ثبوت المحرمية لسودة.

                                                              وهذا باب من دقيق العلم وسره لا يلحظه إلا الأئمة المطلعون على أغواره، المعنيون بالنظر في مأخذ الشرع وأسراره. ومن نبا فهمه، عن هذا وغلظ عنه طبعه فلينظر إلى الولد من الرضاعة كيف هو ابن في التحريم، لا في الميراث ولا في النفقة ولا في الولاية.

                                                              وهذا ينفع في مسألة البنت المخلوقة من ماء الزاني، فإنها بنته في تحريم النكاح عليه عند الجمهور، وليست بنتا في الميراث ولا في النفقة ولا في المحرمية.

                                                              وبالجملة: فهذا من أسرار الفقه، ومراعاة الأوصاف التي تترتب عليها الأحكام، وترتيب مقتضى كل وصف عليه. ومن تأمل الشريعة أطلعته من ذلك على أسرار وحكم تبهر الناظر فيها.

                                                              ونظير هذا: ما لو أقام شاهدا واحدا وحلف معه على سارق أنه سرق متاعه ثبت حكم السرقة في ضمان المال على الصحيح، ولم يثبت حكمها في وجوب القطع اتفاقا. فهذا سارق من وجه دون وجه، ونظائره كثيرة.

                                                              فإن قيل: فكيف تصنعون في الرواية التي جاءت في هذا الحديث: واحتجبي منه يا سودة فإنه ليس لك بأخ ؟ قيل: هذه الزيادة لا يعلم [ ص: 568 ] ثبوتها ولا صحتها، ولا يعارض بها ما قد علمت صحته، ولو صحت لكان وجهها ما ذكرناه: أنه ليس لها بأخ في الخلوة والنظر، وتكون مفسرة لقوله: "واحتجبي منه"، والله أعلم.

                                                              وهذا الولد الذي وقع فيه الاختصام هو عبد الرحمن بن زمعة مذكور في كتاب الصحابة.

                                                              وهو حجة على من يقول: إن الأمة لا تكون فراشا ويحمل قوله: الولد للفراش على الحرة؛ فإن سبب الحديث في الأمة فلا يتطرق إليه تخصيص، لأن محل السبب فيه كالنص، وما عداه في حكم الظاهر. والله أعلم.




                                                              الخدمات العلمية